تعد الاختناقات المرورية حالياً إحدى أهم الإشكاليات التي تشغل بال كثير من السائقين من المواطنين والمقيمين في مدينة الرياض، فالقيادة وسط هذه الكم الهائل من السيارات المتراصة التي تتدافع في الشوارع بشكل يفوق المتوقع يجعل جميع مرتادي الطرقات في حالات عصبية منذ الصباح حتى المساء في محاولة يائسة للخلاص من عذاب الانتظار والجلوس لفترات طويلة داخل السيارات ما يسبب الإجهاد البدني والتوتر والانفعال الذي من أبرز نتائجه تدني مستوى أداء وإنتاجية الفرد بشكل عام، لقد تحولت مدينة الرياض في الآونة الأخيرة إلى مدينة شبه مغلقة يتحرك فيها الناس والمركبات بشكل بطيء ومزدحم، وتتلاصق فيها المركبات بشتى أنواعها وأحجامها ككتل خرسانية، أن العجيب في الأمر أن هذه الاختناقات المرورية لم تعد ترتبط بساعة ذروة أو وقت مناسب أو استثنائي أو حدث، بل أصبحت على مدار اليوم كسيناريو مكرر لا يمكن الخروج منه، حتى أن هذا الازدحام ولد لدينا إحساساً مؤلماً واخترق علينا مشاعرنا وأفكارنا وسلوكياتنا اليومية، بعد هذا وبعد المقالة التي نشرتها في هذه الجريدة الغراء في يوم الثلاثاء الموافق 29-10-2013 وتحت عنوان (يا مدير عام المملكة: هل أنت راضٍ عن عملكم؟!) وبعد تلقي الكثير من التعليقات والاتصالات من طرفي القضية المواطن والمرور، قلت في نفسي لن أستمر جالساً في مدرجات المتفرجين، وعلي القيام بدور الباحث الميداني للبحث عن حقيقة الوضع المروري في مدينة الرياض ماله وما عليه، بعد أن أتاح أمامي سعادة اللواء عبدالرحمن المقبل مدير عام الإدارة العامة للمرور بالمملكة، كافة السبل وعبد لي الطرق، وهيأ لي الأمكنة، وحقق لي كل المتطلبات والرغبات، وفتح لي الوقت ساعتئذ أريد وأبتغي، رافقني خلالها المقدم علي بن مهذل القحطاني مساعد مدير شعبة السير المشرف على الطرق الدائرية والمرور السري، على مدى يومين، كانت متعبة ومرهقة لكنها رائعة كروعة الحقل والماء والبياض، خصوصاً مع رجل مثله لا يخلع البدلة، ولا ينام سوى ساعات قليلة جداً ومعدودة وربما يكتفي بالإغفاءة فقط، يجوب الطرقات والأحياء، يتابع بدقة ويسأل، جهاز سيارته وجواله لا يهدآن اتصال يعقبه اتصال، وسؤال يعقبه سؤال، وتوجيه يعقبه توجيه، درنا مدينة الرياض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، حياً حياً، وشارعاً شارعاً، وممراً ممراً، عشت الحدث بكل تنوعه ولونه وطيفه، رأيت من المخالفات والتجاوزات ونقص في كفاءة اسائقين ورعب في الحوادث المتنوعة ومعدلات وفيات مجانية كبير ومهول وسلوكيات قيادة سالبة مجنونة متهورة وطائشة وسرعات زائدة، وتجاوزات خاطئة، وعدم ربط الأحزمة وقطع للإشارات، وتجاهل كبير لقوانين المرور، والاستعراض بالسيارات في الشوارع والقيام بحركات خطرة، وأخطاء أخرى كثيرة مختلفة ومتنوعة ليس لها حد ولا عد، تعكر صفو الذهن والمزاج، وتدثر بالحزن والوجع والألم، وأن فئات الشباب من عمر 15 - 22 يمثلون أكبر شريحة للوفيات المرورية، بنسبة تصل إلى 25%، وتغص بأجسادهم الطرية الفتية ثلاجات الموتى بشكل صادم كبير ومهول، بعدها تبين لي وفق يقين تام بأن ليس ثمة دائرة حكومية في عصرنا ذا الانفتاح الكبير والكثافة والتنوع والتعقيد دون هنات أو أخطاء أو زلات، رغم المحاولات الحثيثة للنجاح والتفوق والتميز، في العاصمة الرياض المترامية الأطراف والتي تشبه البحر، والتي تعد من أسرع مدن العالم توسعاً، ومن أكبر المدن العربية من ناحية المساحة إذ تبلغ مساحتها (1.435) كيلو متر مربع، سكانها عددهم في حدود 6 ملايين نسمة، يشكلون سدس سكان المملكة، السعوديون يشكلون فيها 68% بينما غير السعوديون يشكلون 32%، ويجوب طرقاتها يومياً حوالي 985 ألف سيارة بمتوسط 1.6 سيارة لكل أسرة، 90% منها سيارات خاصة، و3% حافلات و3% سيارات أجرة، وتتحرك هذه الحشود في فترة الذروة من الساعة السابعة صباحاً إلى الثالثة بعد الظهر، ومن بعد صلاة العصر حتى الساعة العاشرة مساء، وعدد الرحلات المرورية في مدينة الرياض لوحدها يبلغ نحو 6.5 ملايين رحلة في اليوم، ومن المتوقع خلال السنوات العشر المقبلة أن يصل عدد الرحلات إلى أكثر من 15 مليون رحلة يومياً عام 1442ه، واتضح أن 27 % من هذه الرحلات تتعلق بالنقل المدرسي وأن الاعتماد بصورة أساسية على السيارة الخاصة وسيلة للتنقل، أن كثافة التكدس المروري الذي لاحظته في الشوارع شمل حتى الطرق الدائرية خارج على أطراف المدينة على الرغم مما يبذل من جهود في تحسين وتوسعة الطرق وتسهيل حركة المرور، أعرف بأن المدن الكبرى والعواصم في مختلف دول العالم تعاني زحمة مرورية، ومدينة الرياض وبحكم أنها عاصمة الوطن تعاني كغيرها حركة مرور كثيفة، وهذا واقع معاش يراه ويعانيه الجميع، ويتطلب تعاون كافة الأطراف مع المرور لفك هذه الكثافة المرورية اليومية، في يقيني أن السبب يعود إلى أن أغلب الوزارات والمواقع الحكومية والمرافق الصحية والأسواق البيرة تقع في وسط المدينة، وهي مقصد كثير من الزوار والمراجعين من داخلها وخارجها إما لظروف العمل أو الدراسة أو مراجعة المستشفيات، كذلك زيادة عدد السكان بشكل واضح، إضافة إلى أن المخططين السابقين لمدينة الرياض في بداياتها التنموية لم يتوقعوا هذا الكم الكبير من الناس فلم يؤخذ في الحسبان التخطيط على هذا الأساس، فعلى سبيل المثال كانت الرياض في السبعينات الميلادية لا تجاوز قاعدة الملك فيصل الجوية شرقاً لكنها الآن تجاوزت تقريباً 100 كم طولاً وعرضاً، أن لهذه الازدحامات المرورية انعكاسات على تدني الإنتاجية في قطاعات العمل بشكل عام، تذكر دراسة متخصصة في اقتصاديات المدينة صادرة عن الهيئة العليا لمدينة الرياض، أن مدينة الرياض العاصمة تخسر اقتصادياً نحو 7 مليارات ريال سنوياً بسبب الاختناقات المرورية، ومثلها 7 مليارات أخرى بسبب الحوادث المرورية، كما تشير ذات الدراسة أيضاً إلى أن استمرار الازدحام المروري سيؤدي إلى مزيد من استنزاف المواطنين على الصعيد المادي والمعنوي، ويسهم في اعتلال الصحة العامة مما يؤثر تأثيراً مباشراً في أداء الموظفين في القطاعين الحكومي والخاص لأعمالهم، ويساعد على تدني مستوى الإنتاجية بكافة أشكالها وتنوعاتها، وبعد لقد تعرفت على وجهة نظر عدد من الأطراف المعنية بهذا الموضوع الحيوي المهم، يمكن القول بعدها بأن الازدحام المروري في شوارع وطرقات مدينة الرياض، بالإضافة إلى تسببه في العديد من المشكلات البيئية والاقتصادية والاجتماعية أصبح عاملاً مؤثراً في تدني إنتاجية بعض الموظفين والعاملين على مختلف مستوياتهم ومواقع عملهم، لكنني أتساءل ما هي الحلول؟ وكيف يمكن تلافي تأثيرات الازدحام السلبية في مستوى الأداء والإنتاجية والعمل؟ إن على الجهات المعنية وأفراد المجتمع كافة كلاً وفق عمله ومسؤوليته وللحد من الازدحام المروري، ومن أجل أن تكون مدينة الرياض خالية من الكثافة المرورية العالية طوال اليوم، على الكل القيام بالآتي: - الحد من استيراد أعداد السيارات يعد أمراً مطلوباً في ظل هذه الأزمة. - تطوير وتحسين بنية الشوارع الرئيسة. - الإسراع في تنفيذ مشروع القطار الكهربائي. - توفير خدمات راقية لحافلات النقل العام المزمع القيام بها عبر شبكة متوفرة ومتكاملة. - تطبيق نظام التعاملات الالكترونية بشكل أوسع وأعم عما هو عليه الآن للحد من كثرة المراجعين للدوائر الحكومية والبنوك. - نقل بعض الأجهزة الحكومية إلى أطراف المدينة. - نقل كافة المصانع والورش بشكل فوري خارج المدينة. - التطبيق الحازم والصارم على كل مخالف أياً كان وأياً كانت نوعية المخالفة دون هوادة لأنه الضمان الأكيد لسير الحياة القويمة الخيرة وللحد من الحوادث المرورية المميتة. - تكثيف التوعية المرورية إعلاميا في الصحف وفي الفضائيات وفي أي مكان إعلامي آخر وعلى مدار العام. - إطلاق جائزة مخصصة للحلول المبتكرة للحد من الازدحام المروري في شوارع مدينة الرياض. - تكثيف طباعات المطويات والمنشورات وتوزيعها على أصحاب المركبات مبينا فيها كل المعلومات والمسئوليات التي يجب إتباعها والتقيد بها والعمل بها وسبل الوقاية من الحوادث لنشر الوعي المروري بين السائقين ومستخدمي الطرق وتكون بعدة لغات تشمل اللغة الإنجليزية والملبارية والأوردية والنيبالية والسنهالية والهندية. - وجوب تطبيق منهج تدريس مادة السلامة المرورية لدى طلاب المدارس لجميع الفئات العمرية بجانب التقنيات والتكنولوجيا الحديثة بدءاً من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية، لإنشاء جيل واعٍ متدرب ومؤهل لمواجهة مخاطر الطرق ولديه القدرة على التصرف وقت وقوع الحوادث. - عدم تجديد ملكية السيارات التي يزيد عمرها عن 15 عاما للحد من استعمال السيارات المتهالكة. - الإسراع في تجديد البنية التحتية للطرق الحالية واستكمالها وتوسعتها. - أغلب الشوارع الرئيسية والفرعية مناطق سوداء للحركة والاختناقات المرورية كثيفة فيها فلا يوجد شارع يخلو من أعمال الصيانة والإنشاءات والتعديلات التي تستغرق الكثير من الوقت. - إعادة النظر والتقويم للجزر الترابية الواقعة بين مسارات الطرق الرئيسية والتي تأخذ مساحات كبيرة للاستفادة منها في توسعة مسارات الطرق. - الإسراع في تقييم الوضع الراهن لازدحامات الطرق من خلال تنظيم ورش عمل متفرقة واجتماعات وزيارات ميدانية وحصر البيانات والمعاقات. - وجوب تعاون المواطن والمقيم مع رجل المرور لغرض توفير انسيابية المرور. - الشروع الفوري بفرض غرامة مالية كبيرة رادعة على من يقوم باستخدام الجوال أثناء قيادته للسيارة. - عدم إعطاء أي ترخيص لأي بناء لا تتوفر في أرضيته مواقف للسيارات. - إقامة محاضرات مرورية متتالية في المدارس والمعاهد والجامعات من قبل قسم العلاقات العامة والإعلام في مديرية المرور لتوعية الطلبة حول الأنظمة المرورية وكل ما يتعلق بها. - وضع منظومة ولجان عمل لبلورة إستراتيجية وطنية للسلامة المرورية وتعزيزها ببرنامج زمني تنفيذي تحدد فيه أدوار وواجبات اللجان المعنية لتفهم هذه الإستراتيجي. - على أفراد المجتمع تهيئة أنفسهم وتثقيفها على إطاعة التعليمات والالتزام بالأصول المرورية المرعية وأن يتعودوا عليها حتى تصبح جزءاً من حياتهم. - على أولياء الأمور ضرورة متابعة سلوكيات أبنائهم الحاصلين على رخص القيادة مراقبتهم ومتابعتهم وإرشادهم وتحذيرهم من القيادة المتهورة والسرعة العالية ووجوب التقيد بتعليمات وإرشادات المرور. لقد حاولت الاختصار قدر المستطاع علماً بأن الموضوع يستلزم الكثير من الدراسة والبحث والتدقيق لأنه متشعب وشائك وبه تنوع، ولكون مدينة الرياض مقبلة على زيادة ضخمة في عدد السكان مما يبرز الحاجة إلى تطوير طرقاتها وشوارعها وأرصفتها وممراتها بشكل سريع غير آني، حتى تستطيع استيعاب تلكم الأعداد المتزايدة، علاوة على كون المدينة مقبلة على مستقبل سياحي مشرق يتوقع معه قدوم أعداد كبيرة من سياح الداخل والخارج، وفي الختام إن الحديث عن هذه الأزمة المرورية الخانقة هو حديث شجون أعرف أن لا نهاية له في وقتنا الحالي، إلا أنه من المفيد أن يبقى الأمل قائماً في معالجة هذه الآفة الخطيرة التي أصابت مدينتا الرائعة الرياض، عبر وضع دراسات جدية ومستفيضة ذات جدوى وأبحاث علمية حقيقية تفتش عن أنجع السبل والحلول للتخلص من هذا الكابوس الذي بات يجثم على صدور المواطنين والمقيمين في هذه المدينة كما يجثم المرض العضال! ويكفي هنا أن أقول إنني أعمل في مدينة الرياض ويفصل بين بيتي وبين عملي 40 كيلومتراً فقط، لكنها تحتاج مني ساعتين أحياناً إذا لم يكن أكثر، فإلى متى ننتظر وإلى متى تبقى أعصابنا تنزف وعقارب الساعة تدور وأوقاتنا تذهب هدراً، إنه سؤال مشروع لا بد من الإجابة عليه لأن مشكلة كهذه لا تقبل التسويف بحلها أو الانتظار أكثر، ولأنها لا تنعكس بسلبياتها على الفرد فحسب وإنما على المجتمع بكل أطيافه ككل، إنها أزمة حقيقة عالقة تبحث لها عن مخرج من كافة الأطراف المعنية، لهذا كتبت عن هذه الأزمة المزمنة، وعشت المشهد المزمن بدقة متناهية مع رجال وطنيين مسؤولين عمليين يعون جيداً ما يفعلون رغم الظروف والمعاقات الكثيرة والكبيرة التي تصادفهم، إلا أن هممهم العالية وتطلعاتهم القوية، وأحلامهم الكبيرة، تذيب كل الظروف والمعاقات، وتهدم كل المصدات، وتجبر الرياح العاتية على أن تغير مسارها، إنهم للحق والصدق يحاولون ما استطاعوا أن يرسموا لنا مرفأً حالماً، وأرضاً خصبة، ومتكأَ للرخاء والاستجمام، ويحاولون بقدر أيضاً أن يعزفوا لنا لحناً بهياً ينساب عذوبة ورقة قدر الإمكان والمتاح، إنهم نخبة عمل نشيطين ومميزين، لكن من حقنا كمواطنين ومقيمين أن نطالب ونحلم بمرور منظم مرفه وفاخر وله استثناء وبه تميز، وهذا حق المواطن والمقيم على المسؤول المؤتمن القدير، وللمرور أيضا حقاً كبيراً علينا كأفراد مواطنين ومقيمين أن نكون جزءاً هاماً فاعلاً ونشيطاً ومسؤولاومتعاوناً ورجل المرور الخفي من أجل تحقيق هذا الحلم الذي نبتغيه ونريده ونتمناه، لأن كلا الطرفين الفرد والمسؤول هما خميرة الرقي والتطور الاجتماعي، ملحه وسكره وأكسجينه، إن المسؤولية في هذا الأمر المهم مسؤولية مشتركة تضامنية لا يجب أن يتخلى أحداً عنها مطلقاً، أو يتجاهلها أو يغض الطرف عنها.