الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد إن كلمة التوحيد أساس الدين والملة وقاعدة الإسلام العظيمة،عليها صلاح الدين والدنيا والآخرة، ومن أجلها أنزل الله كتبه، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين، ومن أجلها كانت الدنيا والآخرة، ونصبت الميزان، ونشرت الديوان، وقام سوق الجنة والنار،جعل الله شعائر الإسلام كلها دائرة حول هذه الكلمة، تغرس في القلوب الإيمان بالله عالم الغيب والشهادة، وتغرس في النفوس اليقين بلا إِلَهَ إِلَّا الله، فكل ما في هذا الكون دال على هذه الكلمة العظيمة. وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده ولا يشرك به كائنا من كان، فالله وحده سبحانه المستحق أن نعبده ولا نشرك به شيئا. وهذا هو التوحيد الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب. قال الله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (45) سورة الزخرف. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياءوقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } (36) سورة النحل. ويدخل في ذلك: ألا نخاف إلا إياه، ولا نتقي إلا إياه، ولا ندعو غيره،ولانتوجه بحوائجنا ورغبتنا إلا إليه كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } (52) سورة النور فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} (59) سورة التوبة. فجعل الحب لله وحده لاشريك له كما جعل الرغبة إليه وحده عز شأنه، وجعل الإيتاء لله وللرسول، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (7) سورة الحشر، فالحلال ما حلله الرسول، والحرام ما حرمه الرسول، والدين ما شرعه الرسول. ولذا جعل الله من تمام محبته طاعة رسوله لما يتحقق بهذه الطاعة من إقامة التوحيد وظهور أثرها على الجوارح قال تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله علي وسلم:{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وهذا الاتباع توقيفي طريقه السمع لا العقل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه، وهذا ظاهر في تقرير التوحيد وبروزه في أعمال العباد ولاسيما في هذه الشعيرة العظيمة التي تقام في أكرم البقاع قال تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (97) سورة آل عمران. وفي جمع من المسلمين الذين جاؤوا من كل فج عميق قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحج. كل هذا استجلابا لكريم المكان وبركة الاجتماع والزمان وتشوف النفوس لتلقي الحق وقبوله وتبشير الخلق بمضامينه وإنذارهم بنذره، فكان بذلك الحج في شعائره ومناسكه إعلانا للتوحيد واستدعاء للإيمان العلمي والعملي حتى تبنى بذلك النفوس المحسنة المتيقنة بوعد الله وكريم فضله. وعلى الحاج أن يتأمل ذلك في أعمال الحج كلها،وأن يستشعرها عند القيام بها ليجمع بين الحقائق العلمية والتطبيقات العملية، فيذوق بذلك حلاوة الإيمان وأثره على النفس. ومن معززات الإيمان وتعميقه في النفوس التمعن والنظر في آيات الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة المتعلقة بالحج من ذلك: قوله عز وجل {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ...} وذلك إلزام لإتمامه الحج والعمرة لله خالصتين استدامة وابتداء. وقوله جلا وعلا: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران. فتأكد بذلك وجوب الحج وصرفه لله تعالى، وبيان غنى الله تعالى عن خلقه فما فعلوه طاعة لله واتباعا لنبيه فهو خير لهم في الدارين ومن شاب ذلك بناقض من الشرك والكفران فإنه تعالى لا يرضه لهم. وقوله جل في علاه:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} في الآية بيان بأن هذه الشعيرة العظيمة قائمة على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له، لذا حذر سبحانه من الشرك ونجاسته، فقال (عز وجل): {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } كل ذلك من أجل تحقيق التوحيد لله وحده تحلية به، وتخلية من الكفر بالطاغوت. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (30) سورة الحج ذلك الذي أمر الله به مِن قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت، هو ما أوجبه الله عليكم فعظِّموه، ومن يعظم حرمات الله، ومنها مناسكه بأدائها كاملة خالصة لله، فهو خير له في الدنيا والآخرة. وأحلَّ الله لكم أَكْلَ الأنعام إلا ما حرَّمه فيما يتلى عليكم في القرآن من الميتة وغيرها فاجتنبوه، وفي ذلك إبطال ما كانت العرب تحرِّمه من بعض الأنعام، وابتعِدوا عن القذارة التي هي الأوثان، وعن الكذب الذي هو الافتراء على الله. وقال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} يقول السعدي رحمه الله (ولكل أمة من الأمم السالفة جعلنا منسكا، أي: فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملا والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا، لإقامة ذكره، والالتفات لشكره، ولهذا قال: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وإن اختلفت أجناس الشرائع، فكلها متفقة على هذا الأصل، وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية، وترك الشرك به ولهذا قال: {فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلام له طريق إلى الوصول إلى دار السلام. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} بخير الدنيا والآخرة، والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده، ثم ذكر صفات المخبتين فقال:{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: خوفا وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات، لخوفهم ووجلهم من الله وحده، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } من البأساء والضراء، وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره،{وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ َ} أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة،{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي ب { من } المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله). أما في السنة حديث جابر - رضي الله عنه - في السنن: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ) رواه الترمذي وغيره، وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي الطفيل قال: (كنت مع ابن عباس ومعاوية فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه فقال ابن عباس إن رسول الله لم يستلم إلا الحجر واليماني فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجور)، وعن طارق بن شهاب، قال: قالت اليهود لعمر: لو علينا، معشر يهود، نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، نعلم اليوم الذى أنزلت فيه، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: فقال عمر: فقد علمت اليوم الذى أنزلت فيه، والساعة، وأين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين نزلت. نزلت ليلة جمع، ونحن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعرفات. ولايغيب عن البال ماتشتمل عليه مناسك الحج وأعماله من شعائر التوحيد وأعمال المناسك من التلبية والتهليل والتكبير والذكر. كما أوصي الحاج بالتواصل مع أهل العلم للمساعدة في الدلالة على معاني التوحيد من خلال وقوفه في المشاعر وما تختص به من الأذكار والأدعية السنية الثابتة، وليعلم الحاج بأن إدراك العبد لحقيقة الحج، والحكم والأسرار التي شرعت الشعائر من أجلها يهيئه ليكون حجه مبروراً؛ إذ القيام بذلك بمثابة الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها أكثر خشوعاً كانت صلاته أرجى قبولاً،وكذلك الحج كلما استوعب المرء حقيقة الحج، وروحه، والحكم والغايات التي شرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح عقيدته وسلوكه كان حجه أرجى قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولا يتمكن أحد من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويجتهد في التأمل والبحث عن أسرار الحج وحكمه، أما من لم يكن كذلك، فيخشى أن ينصرف عمله ليكون خليطاً من السياحة المجردة والنزهة أوالمتاعب والمشقات لا غير. وبعد: ففريضة هذا شأنها مع أصل الأصول.. ترى كيف ينبغي أن يكون حال الدعاة معها في ذلك الجمع الكبير ؛ حيث توافد الناس من أرجاء المعمورة، يحدوهم الشوق،وتدفعهم الرغبة، وقد انقطعوا لأداء النسك، وتفرغوا قبله وبعده أياما؟ تلك - والله - سانحة ما كانت لولا رحمة الله ومنته، فما أحراها بالاغتنام لإقامة أساس الدين. سائلا المولى أن يوفقنا لنشر دينه والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن،وأن يسددنا في القول والعمل، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير وأن ينفع بجهودهم الإسلام وأهله.