ابتداءً، وقبل الحديث عن هذا اليوم، فإننا نحمد للأخوة جميعهم تحمسهم للدين وحرصهم على أن تكون أفعالنا وأقوالنا في كنفه، والله يتولى السرائر، وإنما الأعمال بالنيات، وكل أمر قابل للحوار والنقاش مادامت الثقة بين الأطراف متحققة وحسن النية أساساً تدور حوله تصرفاتنا البشرية. نعم، انتهى اليوم الوطني وانتهت معه كل أدوات التأزيم التي صاحبت هذا اليوم الذي هو نعمة من نعم الله، تحقق فيه التوحيد ومكن الله للشريعة، ووحد الله فيه الأمة بعد الخلاف والاختلاف، ورفع عنها سبل العيش التعيس، وميزته أنه لم يكن احتفالاً لاستقلال ولا لإقرار نظام غير إسلامي، وإنما كان احتفالاً بتوحيد وشريعة. وعطفاً عليه وتأكيداً للعبارة السالفة، فاليوم الوطني للمملكة العربية السعودية يختلف عن أي يوم آخر لأي دولة، لأنه احتفال بالشريعة ولم يكن احتفالاً بتطبيق العلمانية أو الشيوعية أو أي قوانين وضعية. فقياسه على ما في الدول الأخرى غير موضوعي تماماً، ولا تتوافر فيه أركان القياس البتة. ثم هو يوم تستعرض فيه الدولة قوتها ولحمتها مع شعبها ومواطنيها والمقيمين فيها، مما يعطي دلالات للآخرين والأعداء المتربصين على قوة المسلمين ووحدة نسيجهم. وربما كان الاحتفال فيه في هذا الوقت ضرورة دينية ودنيوية، والإسلام يسعى في قواعده الكلية لإظهار قوة المسلمين وقوة ولاة أمرهم، فجوز لهم في مواقف الحرب ما لا يجوز لغيرهم كصبغ بالسواد ومشية الخيلاء وغيرهما مما هو محرم في غير هذا الوقت. وكلنا يعرف أن رسول الله حينما سنَّ في الأشواط الثلاثة من الطواف الرمل وهو السرعة والهرولة في المشي ليري الكفار قوة المسلمين وأن حمى يثرب لم تؤثر عليهم. وكذلك قبول سيدنا عمر بن الخطاب لمظاهر القوة التي سنَّها سيدنا معاوية رضي الله عنه ليدخل الهيبة في نفوس الروم واقتنع بمسوغاته فأقره عليها... ومن ينعم النظر ويمعن الفكر في كل ما كان يجد أن ذلك التشويش أصبح منهجية تصاحب كل الفعاليات، ولا أدل على ذلك من سوق عكاظ والجنادرية ومعارض الكتاب، والقائمة تطول، مع أن بعض الإنكار يخالف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره، كسماعه للخنساء وقوله لها «إيه يا خناس» طلباً في زيادته من إنشادها شعرها. والموجع الذي ضربنا في الصميم ما تداوله بعض المغردين من أن هذا اليوم يوم من أيام الجاهلية، وتداولوا أيضاً كلمة لبعض طلبة العلم، وهي :»مكة أعظم بلدٍ فُتح وفتحه أفضل البشر، وفي أفضل الأشهر رمضان، وفي أفضل الأيام العشر الأواخر، اجتمعت أسباب التعظيم وما اتخذه الفاتح يوماً وطنياً». وأفتى بعض أهل العلم بفتاوى عجيبة تتعلق بتغييب الأبناء إن أقامت المدارس احتفالاً... ولم يذهلني مضمونها الخطأ، بل أذهلني السواد الذي يتناقلها دونما تفكير. وهناك وقفات مع العبارة السالفة: 1 - المملكة العربية السعودية لم تحتفل بيوم جاهلي ولا عيد من أعياد الجاهلية كالنيروز وغيره من أعياد النصارى كفلانتين والفصح، وأما عكاظ فهو سوق تنشد فيه العرب وقد كان قائماً حتى عام 129 من الهجرة واستمر حتى ألغاه الخوارج في ذلك العام ولم ينكره الخلفاء الراشدون ولا بني أمية ولا أئمة الإسلام... وحينما أصدرت المملكة العربية السعودية في النظام الأساسي للحكم ذكرت في الباب الأول المبادئ العامة، «المادة الثانية: عيدا الدولة هما عيد الفطر والأضحى، وتقويمهما هو التقويم الهجري»، وقد صدر مرسوم ملكي عند رغبة العلماء والوجهاء برقم 2716 في 17 جمادى الأولى عام 1351 من الهجرة الموافق 18 سبتمبر عام 1932م بتحويل اسم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى اسم المملكة العربية السعودية، ويكون لقب الملك ملك المملكة العربية السعودية، ويكون الأول من برج الميزان يوماً وطنياً للمملكة العربية السعودية. وحرصاً على المصطلحات الدينية لم تسم الدولة هذا بالعيد. وقال فضيلة العلامة محمد متولي الشعراوي: «إن تسمية اليوم الوطني وليس العيد الوطني لدلالة على السمة الإيمانية للدولة السعودية، لأن ذلك يمنع من وجود عيد ثالث للمسلمين، وأن استجابة الدولة لهذا ظاهرة إيمانية تتفق مع ما عرف عنها من التمسك بتعاليم الشريعة الإسلامية». 2 - الأصل في الأشياء الحل كما هو في القاعدة الشرعية، ولا تحريم إلا بنص. وبما أن هذا اليوم من الأشياء المستحدثة ومن الأيام التي توافق عليها أهل هذا الزمان، وهو عند كل الأمم وأشبه بأيام توافقوا عليها كيوم الشجرة ويوم الأم ويوم المعلم ويوم الإيدز، ولا تمارس فيها طقوس دينية ولم يحدث المسلمون فيها عبادات جديدة لأن من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. وأما سبل العيش والحياة فهي متجددة ولذلك قال رسول الله «أنتم أعلم بأمور دنياكم»... 3 - هل كان طلبة العلم المتحمسون يخشون أن يعبد الوطن من دون الله وأن الناس تصوم وتسجد له، ولماذا كانوا يحرصون دوماً على أن يدخلوا الله جل وعلا في سباق مع خلقه مخلوقاته، ويخشون على توحيده من كل شيء وبخاصة في ظل تطور العقول والتفكير ولم تعد العقول تؤمن بالخرافة والشعوذة والتخيلات لتعبد أشياء من هذا النوع. والوطن عبارة عن تحالف بين مجموعة من المدن والبشر على قائدهم وولي أمرهم، ولم يرد تحريم حبها بل وردت أحاديث تؤيد هذا الحب الفطري وتؤيد كل حلف بين هذه المدن وهؤلاء البشر يكون فيه خير ونعمة ونصرة للمظلوم وتحقيق للشريعة وتطبيق لمبادئ الإسلام، كما كان حلف الفضول في الجاهلية والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم «لو دعيت فيه إلى الإسلام لأجبت». ولم يخش الشرع أن يتحول هذا الحب إلى عبادة، والإسلام جوز للمسلم أن يحب نصرانية أو يهودية حباً فطرياً وليس حباً في دينها، فما بالك بحب الأرض التي جعل من مات مدافعاً عنها فهو شهيد. وهذا يؤكد أن الإغراق في تطبيقات قاعدة سد الذرائع قد يؤدي إلى تحريم ما حلله الله ويفسد على الناس حياتهم بالباطل ويضيق عليهم معاشهم، ويخشى على العالم أن يكون حرصه الخطأ وشدته سبباً لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن في معصية، والذي حذر من المتنطعين ودعا للسماحة، وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) متفق عليه، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «معنى الحديث: النهي عن التشديد في الدين، بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة»، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين غلبه وقطعه. 4 - هذه الشدة والتضييق على الناس في المباحات خطيرة لأنها تؤدي إلى إخراج الناس من دين الله، كما خرج النصارى على الكنيسة في العصور الوسطى حينما ضيقت على الناس فلم يستطيعوا العيش إلا بالثورة عليها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وعطفاً عليه في هذا العصر المملوء بالمغريات يجب علينا كمؤسسات شرعية أن نلتزم بالمرونة التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد، والعجب أن بعض طلبة العلم المتحمسين أفتوا بجواز الاحتفال بالميلاد وتبادل التهاني مع النصارى والأمم الأخرى في أعيادهم وغير ذلك ونراهم يسكتون في بيان شرعية الاحتفال باليوم الوطني بل ويسعون للتأزيم في تغريداتهم في تويتر وغيره، كما أن بعضهم كانوا ينادون بإزالة كل آثار الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها ذريعة لعبادته وإطرائه ولكنه في تغريدة له قبل أيام ينادي بالبقاء عليها وليتهم لم يزيلوها لأن فيها من رائحة رسول الله، ولكي يطلع عليها الحاج القادم من أقاصي الدنيا. تناقض في الطرح زاد من حيرة شبابنا وبخاصة أن هذا التقلب يؤكد فقدان المرجعية، وأن القصد من كل التأزيم توحيش الناس وضياعهم ليخرجوا في المحصلة النهائية بالجرأة على الحرام الحقيقي. 4- ورد في السنة الثالثة من خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب من أبي موسى الأشعري عامله على البصرة يقول فيه: «إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب, فلا ندري على أي نعمل, وقد قرأنا كتاباً محله شعبان فلا ندري أهو الذي نحن فيه أم الماضي». فأدرك عمر ضرورة وضع مبدأ للتاريخ الإسلامي فجمع وجوه الصحابة وعرض عليهم الأمر في اختيار المبدأ، فقال البعض نؤرخ لسنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فريق آخر لسنة البعثة, وقال فريق ثالث نؤرخ لسنة الهجرة لأن وقت الهجرة معروف ولم يختلف فيه أحد. وكان بين هذا الفريق الأخير عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً. وأخيراً قال عمر: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها». فإن كان رسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ يوم فتح مكة يوماً وطنياً فقد اتخذ سيدنا عمر بن الخطاب يوم فتح يثرب بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها يوماً يؤرخ به المسلمون، ويستحضرون نعمة الله عليهم في كل سنة، وسماها المدينةالمنورة، وكل عام يتذكره المسلمون ويحتفل به بعضهم ويبدؤون به عامهم الجديد، وإن كان هناك خلاف في زمن الهجرة ولكن المتفق عليه أنهم احتفلوا بالهجرة إلى المدينة ودخولها. 5 - بفعل سيدنا عمر بن الخطاب يرد على من يقول أيضاً إن اليوم الوطني تقليد للكفار، من باب أن التاريخ الهجري تقليد للنصارى في تاريخهم الميلادي والذي كان قبل التاريخ الهجري. ولكن فقه سيدنا عمر والصحابة كان واضحاً وجلياً في اختيارهم واستفادتهم من الأمم الأخرى، كالدواوين وضرب النقود وغيرها، ولم يقل عاقل إنها من التشبه بالكفار والذي ضبطته الشريعة بضوابط تتلخص في طقوسهم الدينية، وأما ما عدا ذلك فالبشرية فيه سواء.. 6 - اليوم الوطني في السعودية من أيام الله لأسباب كثيرة تؤكدها الشريعة السمحة ونص عليهما علماء الأمة، قال تعالى: «{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، وقد ورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ}، قال: «بنعم الله تبارك وتعالى»، قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى:{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}. الأيام هنا بمعنى الوقائع يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم، قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والعرب تسمي العذاب أياماً والنعم أياماً كقوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ}، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام، {فَانتَظِرُواْ}، أي تربصوا، وهذا تهديد ووعيد، {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}، أي المتربصين لموعد ربي.. وتوحيد البلاد السعودية نعمة من نعم الله علينا، قال سماحة الشيخ العلامة ابن عثيمين: «المملكة العربية السعودية هو من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية، أي: أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر بالنسبة لإقامة الدين، فأنا أدافع عن وطني لأنه الوطن الإسلامي الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره -وإن كان عندنا خلل كثير- فهذا لا بأس به»، وقال سماحة الشيخ العلامة ابن باز: «هذه الدولة السعودية دولة إسلامية والحمد لله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتأمر بتحكيم الشرع وتحكمه بين المسلمين»، وقال: «العداء لهذه الدولة عداء للحق عداء للتوحيد، وأي دولة تقوم بالتوحيد الآن ...أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة غير هذه الدولة»، وقال العلامة المحدث الألباني: «أسأل الله أن يديم النعمة على أرض الجزيرة وعلى سائر بلاد المسلمين وأن يحفظ دولة التوحيد برعاية خادم الحرمين الشريفين»، وقال العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله: «لها أكثر من مائتي سنة وهي ناجحة لم يختلف فيها أحد وتسير على الطريق الصحيح دولة قائمة على الكتاب والسنة، ودعوة ناجحة لا شك في ذلك»، وكل ما في الواقع اليوم من التزام بالشريعة في المعنى والمبنى دليل على ما قاله العلماء بقية السلف الصالح. 7 - إن هذا اليوم تذكير بما كان الناس عليه قبل التوحيد من انتشار للشرك والبدع والخرافات، ومن قتال واقتتال وفوضى ومظاهر أفسدت على الناس حياتهم كالعصبيية والطائفية والجهالة، وتذكيرهم أن الله قيض لهم هذا المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله ليوحد الشمل ويطبق الشريعة ويرتقي بالإنسان ويحتضن الإسلام والمسلمين. وهذا التذكير يستوجب الشكر لله جل وعلا على ما تميزت به بلادنا ولله الحمد، وأول النعم التوحيد الخالص، وتسليط الضوء على ما كنا عليه ضرورة للأجيال التي يجب أن تعرف طريقة عيش الأجداد والمخاطر التي كانت تحفهم آنذاك. 8 - أعتقد أن الحرب على اليوم الوطني نتيجة الحرب على الوطنية من قبل والتي كانت جريمة لا تغتفر في نظر كثير من المؤدلجين من الوافدين الذين أثروا في المناهج والتربية على مدى عقود، وكانوا يرون أن الوطنية تقف حاجزاً أمام تنظيمهم العالمي وعالمية دعوتهم، وتجدهم يغفرون لزعماء العالم الإسلامي ممن هم ينتمون لهذه التنظيمات السرية ويصفونهم بأنهم الخلفاء وبلادهم مملوءة بالمنكرات والعري والبدع والخرافات ومظاهر الشرك والعلمانية والشيوعية وينقمون على هذه البلاد وأهلها أهل التوحيد والشريعة والخلق القويم أن تحتفل بيوم تتذكر فيه نعمة الله عليها، علماً أن المنكرات لم يخل منها عيد الأضحى والفطر المباركين ولم تخل منها مظاهر الحياة، فالخطأ ليس في المناسبة ولا يمكن تحريمها لعلة فيها، بل الخطأ في تصرفات الناس ويجب أن تكون القضية في رحمها الطبيعي دونما تحميل لها ما لا تحتمله... والله من وراء القصد.