سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يد الخير .. في يوم الخير

أذكر أنه في فرحة احتفائنا بيومنا الوطني الخالد العام الماضي، وجَّه إلينا سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، يحفظه الله ويرعاه، كلمة ضافية رصينة كعادته دائماً، أكد فيها أن بلادنا العزيزة الغالية هذه، نبع ثر لخير غزير، إذ قال: (... إن من نعم الله على هذه البلاد، أن جعلها يد خير، تسعى إلى كل ما فيه صالح الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء، وبذلت جهودها لخدمة قضايا الأمة دون مزايدة أو رياء، فأصبحت صمام أمان ومرجعية صادقة، ومحل ثقة في التوفيق بين مختلف الأطراف، واستحقت بهذه السياسة كل التقدير والاحترام من دول العالم وهيئاته المختلفة).
وأذكر أيضاً أنه كان لكاتب هذا المقال، مشاركة متواضعة بمناسبة الذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، يحفظه الله ويرعاه، مقاليد الحكم في هذا الوطن الغالي، عن ملحمة البناء القاصدة.. من عهد التأسيس حتى هذا العهد الزاهر، نشرت بجريدة الجزيرة عدد يوم الأحد السادس من رجب عام 1433ه، الموافق للسابع والعشرين من مايو عام 2012م، ص20، أكدت فيها أن كل ما ننعم به من خير وفير وأمن واستقرار منقطع النظير، يعود الفضل فيه لله ثم للمؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، طيب الله ثراه. إذ قلت بالحرف: (... اليوم أخرج عن المألوف، وأجرؤ على الاختلاف مع المؤرخين، فمع كامل احترامي لهم، وصادق اعترافي بجهود أبناء عبدالعزيز الذين تولوا الحكم بعده، أو اضطلعوا بمختلف مسؤوليات الدولة هنا وهناك، مع هذا كله، أؤكد أن كل لبنة بناء في دولتنا هذه، من اللبنة الأولى، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يرجع الفضل فيها لله أولاً وأخيراً، ثم للمؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه، لأنه لم يكتف بقراءة التاريخ فحسب، بل استشرف المستقبل، فعلّم أبناءه، ودربهم وأدبهم فأحسن تأديبهم، وغرس في كل منهم شيئاً مما وهبه الله من كرم وسخاء وعشق للخير.. مؤكداً لهم أنهم أصحاب رسالة وليسوا سعاة سلطة، بل خداماً للعقيدة، وسعاة لخير شعبهم ورخاء الإنسانية...).
والحقيقة أن من يتأمل حياة عبدالعزيز منذ نشأته الأولى، وقصة كفاحه وجهاده، وصدق نيته، ومضاء عزيمته، وقوة إيمانه بربه، وإخلاصه لرسالة أسرته، وما وهبه الله من صفات قيادية فريدة، قلما ما اجتمعت لغيره من القادة، أقول أن من يتأمل ذلك كله ويقرأ تاريخ عبدالعزيز الحافل بأحداث وأعمال وإنجازات هي أقرب إلى المعجزات من الحقيقة، لا يشكل عليه فهم ما ذهبت إليه هنا.
فقد أسس البطل الهمام دولته في فجر الخامس من شوال عام 1319ه، الموافق للخامس عشر من يناير عام 1902م، على نهج آبائه وأسلافه، تحت راية الإسلام الخالدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله). واتخذها شعاراً لها ومنهجاً لحياتها وأساساً لنظامها، وألزم نفسه في كل حركة أو سكنة بنهج الخير هذا، الذي يدعو للخير ويكبح جماع الشر، فأقام صلواته في جماعة، وتمسك بالطاعات وحرص على أداء العبادات، فكان يقود الحجيج في كل عام، منذ ضم الحجاز حتى وفاته، يرحمه الله في مدينة الطائف، صباح يوم الاثنين الثاني من شهر ربيع الأول عام 1373ه، الموافق للتاسع من نوفمبر عام 1953م. ولم يذكر أنه تخلف عن ذلك إلا في سنوات معدودة، لأعذار شرعية كالمرض، أو رغبته في توفير مصاريف الحج لتوزيعها على الفقراء والمساكين.
وكان بجانب هذا، متأدباً بآداب القرآن الكريم، ملتزماً بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، طائعاً لوالديه، شديد البر بهما والحب لهما. له مواقف في بر والديه تقشعر لها الأبدان ويعجز عن وصفها اللسان.
كما كان على المستوى الخاص، شديد الاهتمام بشئون أفراد أسرته وقضاء حوائجهم، حريصاً على صلة الرحم، أولى رعاية أبنائه وتربيتهم وتعليمهم جلّ اهتمامه. ولم يكن لرجل هذا حاله أن يزل له لسان في عرض إنسان أو كرامة أحد.
فكان طبيعياً إذن أن يتسع قلبه الكبير لكل فرد من أفراد رعيته، بل للعرب والمسلمين والإنسانية جمعاء، لأن نفسه الكريمة قد جبلت على الخير. فأسس دولة فتية شامخة، على قاعدة راسخة، وأعلن توحيدها في قصره العامر بالرياض، في اليوم السابع عشر من شهر جمادى الأولى عام 1351ه، واختار اليوم الأول للميزان من كل عام يوماً لإعلان توحيدها. وتعهدها من بعده أبناؤه الكرام البررة، فواصلوا رعايتها حتى امتد ظلها الوارف، وفاض ثمرها، فعم الكون خيرها، وانتفع بها الجميع.
أجل.. كان عبدالعزيز، طيلة حياته، شديد الرحمة والرأفة برعيته، حريصاً على العدل والمساواة حتى في أبسط الأشياء، بل إن قلبه الكبير لم يكن ليغفل حتى عن الرفق بالحيوان. فقد كان صاحب رسالة ورسول خير لشعبه ولم يأت للحكم بدافع التسلط، ولهذا كان همه كله إسعاد شعبه ودفع الضر عنه ما أمكنه، ولأنه كان صادقاً ومخلصاً ومؤمناً صادقاً، فقد هيأ الله له كل أسباب النجاح. فحكى كل من عاصره أو كتب عنه عن يده الطولى الممتدة بالخير للناس بدو وحضر على حد سواءً، فوزع الصدقات والإعانات على المحتاجين من الضعفاء والمساكين والفقراء وعابري السبيل، وفتح لهم المضافات وبيوت الإيواء، وانفق من أجل سد حاجتهم كل ما في يده، حتى اضطر أحياناً للاستدانة للوفاء بتلك الالتزامات وتسيير شؤون الدولة.
وله مائدة يومية مفتوحة على الدوام في قصره لزواره من داخل البلاد أو خارجها تتسع لثلاثة آلاف شخص، يؤمها يومياً ما لا يقل عن خمسمائة شخص. ولم يكتف عبدالعزيز، راعي الخير وصاحب القلب الكبير العامر بذكر الله بهذا، بل كتب إلى عماله وأمرائه في كل ناحية من بلاده، أن يوافوه بأحوال الناس وعدد الفقراء والمساكين المحتاجين للمساعدة، فيرسل لهم حاجتهم من المؤن والثياب وحتى الأكفان للأموات. وحوّل البلاد كلها وقت الأزمات إلى مائدة كبيرة عامرة بالخير، يجد فيها كل محتاج بغيته، كما حدث أيام الحرب العالمية الثانية. وقد حدثني أحد كبار العائلة ممن عاصر عبدالعزيز وأدهشه كرمه وحبه للخير وحرصه على نفع الناس، أنه كان ينتقي أطايب الطعام بيده الكريمة لضيوفه، ويحرص على عدم مغادرة المائدة حتى يطمئن أن الجميع قد تناول كفايته من الطعام.
صحيح.. قد يبدو في هذا مبالغة في نظر البعض، لكن ارجعوا لكتب التاريخ، وسوف تكتشفون أنني اجتزأت كثيراً وقفزت على حقائق كثيرة، لأن كرم عبدالعزيز ونفسه الكبيرة العامرة بالخير وحب الناس، أكثر من أن يوصف. فها هو أمين الريحاني الذي سعد أيما سعادة بصحبة عبدالعزيز، فأدهشه كرمه قبل أن يدهشه ذكاؤه وعدله وحكمته وشجاعته وسماحة نفسه، فيصفه قائلاً: (لقد شاهدت معرض العطاء في الرياض، بل كنت أشاهده كل يوم مدة إقامتي هناك، وأعجب جداً، لا لكرم هذا الرجل، بل لإيمانه وثقته بالله، مصدر الخير غير المتناهي وولي النعم التي لا تزول. وإلا فكيف يؤمل بدوام حال تمكنه من العطاء في بلاد لا ثروة لها ثابتة دائمة).
كرم وعدل وسماحة نفس وعشق أبدي للخير، حوّل الخصوم إلى رجال مخلصين أوفياء، كما يصفه الريحاني مستطرداً: (... ليس من ينيخون في باب السلطان كل يوم الشاهد الوحيد على جوده، وليس من يجيئون ممن كانوا بالأمس أعداءً، الشاهد الفرد على حلمه واقتداره. فإن في الخرج والأفلاج وفي القصيم، وفي ظلال أجا وسلمى، مئات ممن يحمدون الله ثم ابن سعود على حياتهم وعلى ما هم فيه من خير ونعمة).
وتتواصل مسيرة الخير القاصدة، فتتأسس كل وزارات الدولة وإداراتها على تحقيق أقصى نفع للناس وراحة وطمأنينة، وتبدأ حركة العمل الجاد الدؤوب لتحقيق الاستقرار وتوفير بنية تحتية تهيئ حياة كريمة للناس.
ومثلما كان عبدالعزيز ينتقي أطايب الطعام لضيوفه، كما تقدم، اندفع لاختيار الكفاءات من أبناء شعبه لتحمل مسؤولية البناء والتعمير، ووضع أسساً راسخة للحكم، تضمن استمرار المسيرة القاصدة وتحمل راية الرسالة الخالدة إلى الأبد.
وانطلقت مسيرة الخير تستمد جذوتها من همة القائد المؤسس وطموحه وحلمه الكبير لشعبه وأمته، فانتشر الدعاة والأئمة والمرشدون والوعاظ في كل ناحية، وتسابق أهل الخير لبناء المساجد والجوامع وأسست دور الرعاية الاجتماعية لرعاية الأيتام ومن هم في حكمهم. وأولى الحرمين الشريفين جل رعايته واهتمامه، فبادر لعمل الإصلاحات والترميمات فيها بمجرد استقرار الأوضاع له في الحجاز، وأمر باجتماع المسلمين على إمام واحد، وهيأ السقيا للشاربين في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة والمدينة المنورة وعلى امتداد قوافل الحجيج الوافدة إلى بيت الله، وأسس عام 1346ه (1927م) داراً خاصة لحياكة كسوة الكعبة المشرفة، تحولت اليوم إلى مصنع عملاق بمواصفات عالمية، وأسس مدرسة لتعليم المطوفين حتى يؤدي الناس عباداتهم على بصيرة ومعرفة، وبذل كل ما استطاع من جهد لراحة ضيوف الرحمن بعد أن بسط الأمن وحقق الاستقرار وأشاع العدل، كما يصفه الريحاني: (... عدل ابن سعود ! كلمة تسمعها في البحر، وفي البر، وفي طريقك إلى نجد قبل أن تصل إليها. كلمة يرددها الركبان في كل مكان يحكمه سلطان نجد، من الأحساء إلى تهامة، ومن الربع الخالي إلى الجوف).
وصحيح أن الملك عبدالعزيز جاء في وقت صعب وظروف بالغة التعقيد، جعلت مهمته شبه مستحيلة، بسبب الفقر والجهل وضيق ذات اليد، وتربص القوى العظمى بالمنطقة، وغليان العالم إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلى غير ذلك من مشاكل، لكن ما كان لذلك كله أن يفت من عضد رجل مثل عبدالعزيز، صاحب رسالة سامية، وقارئ جيد للتاريخ، وقائد فذ وهبه الله كل ما يتحلى به الأبطال الأفذاذ من كريم الخصال وحسن السجايا، ومواهب القيادة والريادة، من حكمة وحنكة وذكاء وتؤدة، وصبر على المكاره وقدرة عجيبة على العفو والإحسان حتى للمسيء.. فكان يحقق لبلاده وشعبه مع بزوغ كل فجر جديد مزيداً من الخير، حتى في ظل كل تلك التحديات والصعاب، فأدهش العالم، وبدا حقاً ظاهرة فريدة مخالفة لقوانين التاريخ.
ومع هذا، لم يكن خير عبدالعزيز يقتصر على بلاده وشعبه، وهو المعتد دائماً بإسلامه وعروبته، كما قال لممثل بريطانيا بلهجة حاسمة، لا تردد فيها ولا مواربة: (أنا مسلم أولاً، وعربي ثانيًا). والحقيقة جهده لخدمة إخوته في العقيدة والعروبة يجل عن الوصف، غير أنني اكتفي هنا بإشارة سريعة لدوره المحوري في الهم الإسلامي العربي المشترك، الذي ما زال يؤرق الأمة منذ خمسة وستين عاماً، ذلك هو جرح فلسطين النازف. فربما يجهل كثيرون أن الملك عبدالعزيز لا يتحمل أية مسؤولية في صدور وعد بلفور المشؤوم، لأنه رفض الانضمام لعصبة الأمم المتحدة، وبالتالي لم يرتبط بأي قرار من قراراتها لا من قريب ولا من بعيد، وفي مقدمتها الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي يتضمن وعد بلفور. وربما يجهل أولئك أيضاً أن عبدالعزيز كان يحاور الأمريكيين عن فلسطين منذ عام 1357ه (1938م) أي قبل تقسيمها بعشرة أعوام، كما يتضح ذلك من رسالته الضافية الواضحة الصريحة، كعادة عبدالعزيز دائماً، التي وجهها لفرانكلين روزفلت، رئيس جمهورية الولايات الأمريكية المتحدة آنئذٍ: (... لقد سبق أن كتبت لفخامتكم بتاريخ 7 من شوال سنة 1357ه، الموافق 19 من نوفمبر 1938م، كتاباً وضحت فيه حقيقة الأمر بين العرب واليهود في فلسطين، ولابد أن فخامتكم إذا رجعتم لذلك الكتاب، ستجدون منه أنه لا يوجد أي حق لليهود في مطالبتهم بفلسطين، وأن كل ما يطلبونه فيها ليس إلا اعتداءً وعدواناً لم يسجل التاريخ له مثيلاً في تاريخ البشرية. ففلسطين العربية منذ التاريخ الأقدم وموقعها في وسط البلاط العربية... إلخ). كما لم يفته قبل ذلك التواصل مع بريطانيا بشأن فلسطين حتى وهو في خضم معارك التوحيد، إذ أبرق لملك بريطانيا عام 1348ه (أكتوبر 1929م) مستنكراً اعتداءات اليهود على فلسطين، وقد جاءه رد ملك بريطانيا في شهر ديسمبر من العام نفسه. كما أبرق متضامناً مع اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بالقاهرة، وللمجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، بل إن أول موقف رسمي يتخذه عبدالعزيز من القضية الفلسطينية يعود لعام 1345ه (1926م) عندما أصبح ملكاً على الحجاز، وقد كان موقفاً إستراتيجياً بعيد الرؤى كعادة مواقف الكبار دائماً، ركز فيه على مبدأ بقاء زمام الأمور بيد الشعب الفلسطيني، إذ كان رده للزعماء العرب الذين جاءوا لمقابلته: (دعوا الفلسطينيين يأخذون على عاتقهم عبء الجهاد، وأنتم ونحن جميعاً نساعدهم بامال والسلاح والمتطوعين). ففي ذلك محافظة على الحق الفلسطيني وقطع الطريق أمام اليهود، حتى لا يطمعوا في طلب دعم دولي عسكري لحمايتهم ضد الدول العربية. وهنا تكمن العبقرية القيادية والنظرة الإستراتيجية.
وعندما كانت الأزمة المالية والاقتصادية في المملكة على أشدها، وكان عبدالعزيز في حاجة لكل فلس، تلقى عرضاً من القوى العظمى بالتخلي عن فلسطين، وإجلاء سكانها العرب وتوطينهم في الجزيرة العربية، مقابل 250 مليون ريال يدفعها اليهود لعبدالعزيز، واعتراف بريطانيا باستقلال جميع إمارات الجزيرة العربية باستثناء عدن. فكان رد عبدالعزيز الفوري والحاسم للعقيد البريطاني هوسينكنز الذي حمل إليه العرض: (... عد إلى بلادك وقل لحكومتك: إن عبدالعزيز لا يبيع حفنة من تراب فلسطين بكل مال الدنيا).
أجل.. ما يكون لزعيم مثل عبدالعزيز، تتطلع الأمة لقيادته وتنتظر الخير الذي يسوقه الله إليها على يديه، أن يبيع حتى ذرة واحدة من ترابها بكنوز الدنيا وخزائن الأرض كلها.
وكلنا يدرك أن عبدالعزيز هو الذي نقل قضية فلسطين، من قضية بين أهلها من جهة وإنجلترا واليهود من جهة أخرى، إلى قضية عربية عامة، تهم كل عربي على امتداد الوطن العربي، بل ومسلم أيضاً أينما كان.
ومثلما كان هم عبدالعزيز وسعيه ليل نهار هو تحقيق الخير والنفع لشعبه، لم يكن ينسى واجبه تجاه أمته، إذ لم يكن يتحرك في قضية فلسطين، تحت ضغط الجماهير، كما هو الحال مع معظم الحكومات العربية إلى يومنا هذا، بل كان هو الذي يحرض الجماهير للضغط عليه، كما تؤكد تلك البرقية المشهورة التي بعث بها إلى أمراء المناطق في الثامن من جمادى الأولى عام 1356ه (أغسطس 1937م) إثر إصدار قرار التقسيم المشؤوم: (... لابد عندكم خبر من الجرايد والإذاعات عن مشكلة فلسطين بين اليهود والعرب، وقبل يومين أصدر الإنجليز قراراً بأن تكون فلسطين ثلاثة أقسام، قسم لليهود، وقسم للعرب، وقسم يكون للانتداب. وهذا لا شك قرار مضر بالإسلام والعرب، عاجلاً أو آجلاً. ووجود حكومة يهودية في بلاد العرب ضرر ظاهر لا يقبل السكوت عليه، وهذا أمر مخل علينا...).
وهكذا قضى عبدالعزيز عمره المبارك كله وهو يد طولى ممدودة بالخير لكل الناس، وأسس دولة راسخة قوية، تستمد شرعها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، غايتها نفع الناس الذي هو من صميم عقيدتها. وبعد أن انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، راضية مرضياً عنها إن شاء الله، تسلم الراية أبناؤه سعود ثم فيصل، فخالد ثم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، -يرحمهم الله-، فكان كل خلف يضيف لبنة قوية تفيض بالخير على بنيان السلف، مقتفياً أثر الوالد المؤسس الذي غرس بذور الخير في كل ناحية من بلاده وفي كل مجال من المجالات.. إلى أن وصلنا هذا العهد الزاهر الزاخر بالعطاء، الفائض بالخير العميم، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -يحفظه الله-، الذي أدهش العالم، مثلما أدهشنا نحن هنا بما أفاءه الله على يده المباركة من خير غزير، فحول بلادنا إلى ورشة عملاقة للبناء والتعمير والتنمية، حظي فيها الحرمان الشريفان بأعظم توسعة ورعاية وعمران في تاريخهما، خدمة لضيوف الرحمن، وشكراً لله تعالى على نعمه وفضله، وهل شيء أولى منهما برعايتنا وعنايتنا، وقد شرفنا الله بهما من سائر الأمم؟ وحققت إنجازات أشبه بالمعجزات من الحقيقة، ثم فاض خيرها على الأمتين العربية والإسلامية، بل شمل العالم أجمع، وسارت قوافل الخير تترى، مستجيبة إلى كل نداء، إغاثة للمنكوبين، ونصرة للمظلومين، ودعماً للمجتهدين.
والحقيقة، يصعب على أي منصف إحصاء ما قدمته بلادنا، التي وصفها سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي عهدنا الأمين، يحفظه الله، ب(يد الخير).. وهو وصف لعمري أجده بليغاً أيما بلاغة، ومعبراً أيما تعبير عن حقيقة بلادنا ورسالتها الخالدة.. أقول يصعب إحصاء الخير الذي فاضت به (يد الخير) على العالم، غير أنه يكفي أن تعلم عزيزي القارئ، أن ما قدمته للعالم من خير وفير خلال ثلاثين عاماً فقط، زاد عن المائة وثلاثة آلاف مليون دولار، استفادت منها خمسة وتسعون دولة نامية، متجاوزة بذلك النسبة المستهدفة للعون الإنمائي من قبل الأمم المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي للدول المانحة، التي قدرت ب(7.%). فأصبحت بذلك أكبر الدول المانحة وشريكاً رئيساً في التنمية، كما أكد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، نائب وزير الخارجية، في كلمته التي ألقاها في المنتدي الخليجي - السويسري في جنيف، الذي انطلقت فعالياته في السابع والعشرين من الشهر المنصرم.
من جهة أخرى، أكد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، امتنانه وشكره وتقديره لما تقدمه (يد الخير) من دعم ومساعدة لشعوب العالم. إذ جاء في كلمته التي ألقاها يوم الأربعاء 28 من محرم 1434ه، الموافق 12 من ديسمبر 2013م في حفل العشاء الذي أقامه وفد المملكة الدائم لدى الأمم المتحدة للتعريف بأعمال لجنة قرار مجلس الأمن (1540) المعنية بعدم وصول الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل لجهات غير الدول: (... إننا ممتنون لخادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لقيادته ودعمه السخي للأمم المتحدة، ولكثير من الناس المحتاجين للمساعدات الإنسانية...).
أما قوافل الخير المتجهة إلى فلسطين، فأترك المجال هنا لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد لتأكيدها، ومن أبلغ فينا بياناً، وأفصح لساناً، وأقوى حجة وبرهاناً من سلمان ؟! إذ يقول يحفظه الله، في كلمته بمناسبة الاحتفال الخاص برفع علم دولة فلسطين على مبنى السفارة الفلسطينية في الرياض، بحضور الراحل ياسر عرفات في الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام 1409ه، (... إن موقف المملكة العربية السعودية من القضية الفلسطينية، موقف لسنا بحاجة إلى تأكيده أو شرحه، لأنه موقف ثابت يسعى لتحقيق الخير للشعب الفلسطيني ودعم قضيته العادلة على كافة مستوياته، ولقد التزمت المملكة العربية السعودية تجاه هذه القضية التي نعتبرها قضيتنا جميعاً، بل قضيتنا الأولى، موقفاً واحداً لا يتغير، وهو الدعم الكامل للشعب الفلسطيني، بكل ما نستطيعه من جهد، مع ترك الخيار له لإدارة شئونه واتخاذ ما يراه مناسباً بمفرده.. إن هذه البلاد ملكاً وحكومة وشعباً، لا تقف من القضية بقصد إبراز شعارات، بل تقف موقف عقيدة إسلامية، تؤمن بها وتعتبر مكة والمدينة والقدس شقيقات ثلاثة، ولا فرق بين الرياض ونابلس، فالموقف تفرضه عروبتنا الصادقة، ويمليه علينا المصير، وهناك فرق بين رفقاء الطريق ورفقاء المصير، رفقاء الطريق تفرقوا، ورفقاء المصير معكم أمس واليوم وغداً. إن المحور الأساسي لسياسة هذه البلاد هو القضية الفلسطينية، فإن عادينا فإننا نعادي في سبيلها، وإن جاملنا فإننا نجامل في سبيل مصلحتها). ثم يضيف سموه الكريم، مخاطباً الفلسطينيين: (... نحن حتى هذا اليوم ثابتون على سياسة الملك عبدالعزيز: معكم في السراء والضراء، نحن معكم في الحرب والمقاومة وفي السلم).
ومثلما ندرك كلنا، فجهد (يد الخير) في السعي الجاد لرفع الضر عن البشرية ليس في حاجة لشهادة أحد، غير أنني أرى من المناسب أن أترك المجال هنا مرة أخرى لشاهد من أهل فلسطين، لتأكيد ما أثبته هنا ويعرفه القاصي والداني، إذ يقول د. عبدالرحيم جاموس، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، في مقال بعنوان (فلسطين.. والرؤية الصائبة للمملكة) نشر بجريدة الرياض، عدد الأربعاء، 5 من ذي القعدة 1434ه، الموافق 11 من سبتمبر 2013م، العدد 16515، السنة الخمسون، ص 23: (لم تتخذ المملكة العربية السعودية يوماً من الأيام، موقفاً مؤيداً وداعماً للقضية الفلسطينية من أجل أن يأتيها الشكر والتثمين من أي كان على هذه المواقف المبدئية، لأن القضية الفلسطينية بالنسبة لها ليست مجرد قضية دولية عابرة، وإنما هي بالفعل قضيتها الأساسية والمركزية، كما قضية جميع الشعوب العربية، وقد كانت ولا زالت وستبقى مواقف المملكة المسؤولة تجاه القضية الفلسطينية معبرة بحق عن موقفها ومواقف الأمة العربية، ومصوبة ومقومة لما يجب أن تكون عليه الرؤيا العربية تجاه فلسطين.. الشعب والقضية، وتأتي هذه المواقف في سياق رؤيا سعودية إستراتيجية راسخة وليست سياسية عابرة لذر الرماد في العيون، هكذا تقرأ المواقف السعودية المتتالية الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة منذ بدايتها في أربعينات القرن الماضي وإلى اليوم...).
وحتى يكتمل المشهد، أنقل هنا نصاً لإسماعيل هنية، رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة في غزة بمناسبة إحدى احتفالاتنا بيومنا الوطني الخالد، إذ يقول (.. لا أحد يستطيع أن ينكر مكانة المملكة الريادية على مستوى العالم، وللمملكة الدور الريادي على الدوام في دعم القضية والشعب الفلسطيني...).
وإذ نشكرهما، وغيرهما من المنصفين الذين يشهدون بجهد (يد الخير) في كل محفل، نذكر المغرضين بما تقدمه بلادنا من دعم صادق للأقليات المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، وحشدها لطاقات الأمة الإسلامية لمناصرة قضاياها العادلة، ودعمها السخي للصناديق العربية والإسلامية التنموية، هذا غير دعمها الدائم لعدد غير قليل من الدول العربية والإفريقية والآسيوية، واستضافتها الدائمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، ورابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ويكفيها فخراً واعتزازاً، أنها أنشأت حتى اليوم (210) مركزاً إسلامياً في مختلف دول العالم لترسيخ الإسلام الحق؛ فضلاً عن جهودها في الكوارث والأزمات في العالم أجمع، دونما تفرقة بسبب جنس أو عرق أو عقيدة، أو حتى اختلاف سياسي.. فالعمل الإنساني عندها يظل عملاً إنسانياً وواجباً مقدساً، بصرف النظر عن الاختلاف هنا أو الاتفاق هناك. بل يكون أوجب إذا تعلق الأمر بمساعدة الإخوة والأشقاء في العروبة أو العقيدة، كما حدث خلال الأشهر والأيام القليلة الماضية، من دعم سخي للأشقاء في فلسطين السليبة وسوريا الجريحة وأرض الكنانة التي تتبرص بها الدوائر.
وبعد: وجب علينا الشكر صباح مساء، لله المنعم الوهاب، الذي تفضل علينا بكل هذا الخير الوفير: وطناً شامخاً عزيزاً، راسخاً بعقيدته الصافية النقية من كل شائبة، قوياً بتحالف شعبه مع قادته الأوفياء الذين جعلوه مزرعة حقيقية شاسعة لخير أهله والعالم أجمع، إذ يكفيه فخراً أن يحتل المركز الأول على مستوى العالم في دعم الفقراء والمساكين والمعوذين والمتضررين من الكوارث، ويفوز مليكه بالجائزة العالمية لخدمة القرآن الكريم، ويصبح الشخصية الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي، بشهادة المركز الملكي الإسلامي للدراسات الإستراتيجية وليس هذا فحسب، بل يتبوأ المركز الأول عربياً والمركز السابع على مستوى العالم، للعام الرابع على التوالي، في قائمة تصنيف الشخصيات الأكثر نفوذاً في العالم.
والحقيقة، في يوم الوطن المجيد هذا، احترت كثيراً في ما يمكن أن أقوله لقائده اليوم، الذي يؤكد لنا في كل أعماله، جليلها وصغيرها، محلياً وإقليمياً وعالمياً، أن مؤسس الوطن (عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه، باقٍ بيننا إلى الأبد).. أقول: احترت في ما يمكن أن أقوله لقائد بقامة ملك الخير في بلد الخير، العبد الصالح، عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، فأستأذن صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، الإداري البارع، الشاعر الفحل، الأديب الأريب والفنان المبدع، أن استعير كلمته المقتضبة الوافية البليغة كعادة الفيصل دائماً، المفعمة بكل ما يجيش في النفس تجاه مليكنا المفدى، -حفظه الله ورعاه-، التي وجهها إلى مقامه الكريم بمناسبة احتفائنا بالبيعة السابعة لخادم الحرمين الشريفين، فنردد كلنا اليوم بلسان الفيصل:
سيدي خادم الحرمين الشريفين..
الملك عبدالله بن عبدالعزيز..
أنت العقل في الرأس..
والنبض في القلب..
والفصل في القول..
عشت قائداً مظفراً..
لشعب مميز..
على أرض مقدسة..
حفظك الله ورعاك..
وختاماً: هلموا نردد كلنا مع الشاعرة الراحلة المبدعة، مستورة الأحمدي، يرحمها الله، شاعرة أوبريت (قبلة النور) الذي أجده عملاً رائعاً حقاً، فكلما قرأته، أحس أنني أقرأه لأول مرة، لما يفيض به من معاني وما يشتمل عليه من جزالة، فهو كما يقولون من الأعمال التي تصنف في قائمة (السهل الممتنع) فلنردد إذن مع مستورة، لوطننا في يومه الخالد المجيد:
للسعودية ولانا
ما نوالي غيرها
وكل مازدنا غلانا
زاد فينا خيرها
حبها يكبر معانا
وهمنا تعميرها
وكل عام وطن الخير بألف خير.. وقادة الخير في حفظ الله ورعايته وتوفيقه.. وشعب الخير في راحة ودعة وأمن وسلام ووئام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.