في الحلقة السابقة ناقشنا نماذج لظاهرة التفاصح في شعر كلٍ من (بديوي الوقداني - عبد الرحمن الربيعي ناصر الفراعنة). وفي هذه الحلقة نواصل الحديث من خلال عرض ومناقشة بعض نماذج التفاصح في الشعر النبطي.. فمن التفاصح المضحك قصيدة غناها حجاب قبل نصف قرن من الزمان تقريباً, ولعل ما سوّغها في قرائح المتذوقين أنها كُتبت لتغنّى فقط وما يُكتب ليُغنى يُتجاوز فيه عن كثير من منكرات الشعر, ولأجل الطرب تنتهك محرمات القريض, ومن هذه القصيدة نختار ما يلي: آنا رهين الحب آنا المعذبا من كنت طفلا جوف قلبي تسربا الحب لا يورث ولا هو بيشترا شيء صعيب لا قرد الناس يوهبا احب فتاة سم حالي غيابها تخفت عن الأنظار من خوف تنهبا طرحت عليها البال ايام صغرها أيام بالأسواق تلهو وتلعبا ولولا طولها لأوردتها كاملة, والتفاصح فيها لم يقتصر على الألفاظ والأسلوب والتراكيب النحوية والصرفية، بل تجاوزها إلى الوزن أيضاً, فقد اختلطت فيها البحور وتكسرت التفاعيل فغرقت الفصحى فيها في ظلمة متوالدة.. أما سعد علوش فيقول متفاصحاً: فهل علمت عن جنوني يا آنف إني لمجنون النشاز المجيدي لبيك يا سلكا حملت الفضائل أوعز لصاحبك بتحرير قيدي ويبدو أنه فطن إلى أن المخاطب ربما جفل من هذه اللغة الغريبة، فاستدرك فورا وترجم هذا المعنى وقال: يعني ابحكينا لبّى والله عروقك متى تعيّد في عيوني يا عيدي والترجمة هنا ليست ترجمة حروف ومعانٍ, بل ترجمة لهفة ونشوة.. ومفردة (ابحكينا) هنا ليست من لغة الشعر النبطي .. لقد أراد سعد أن يتفاصح لكنه أتى بالغث المتكلف, ولست أدري ماذا يقصد بالسلك في قوله (لبيك يا سلكا ..) أهو سلك الهاتف الذي نقل صوت الحبيب؟ أم سلك الحرير؟ أم سلك الكهرباء؟ أم سلك آخر! أما كلمة (أوعز) في البيت فقبيحة ثقيلة لا يخفى تكلفها. ومما يُلاحظ في هذين البيتين وفي بعض الشعر المتفاصح تساهل الشاعر بضبط أواخر بعض الكلمات وهذا غير مقبول في الفصيح. ونأتي إلى نوع آخر من التفاصح, نوع جعل التفاصح أسلوباً وسمة خاصة, أي ثابتاً في كل القصيد لا عارضاً كما رأينا من قبل, اقرأوا معي للشاعر خالد صالح الحربي قوله: ما احترمت من الغَباء إلا البَغاء وما حسدت من العيون إلا كفيف! ضقت ذرعا مِن وجوه الأصدِقاء اسمحوا لي باتوقّف. قبل أضِيف: «ما بأيدينا.. خُلقنا تعساء» لكن.. بأيديهم الواقع: «سخيف!» وقوله: لم تعرف الخمر يوما والطرب والنساء حتى انهشتك البطالة والفقر والربو لم تقتنِ العمر إلا في كفوف الفناء لم تُتقن الموت إلا بين «أمّ وأبو» وأول ظاهرة تطالعنا في أسلوب خالد هنا وفي بقية قصائده هي ميله الجارف لتوظيف (البديع) بفنونه المختلفة, وإن كان يحب أن يصنع المفارقة من خلال (الطباق) وهو التضاد, و(الجناس) وهو تشابه الحروف واختلاف المعاني, و(الاقتباس والتضمين).. ومن خلال تقرير المعاني بوساطة (أسلوب الحصر) بالنفي والاستثناء. وهذا شعر متفاصح.. أي لا فصيح ولا نبطي, فمفرداته فصيحة, وأوزانه فصيحة متفقة مع أوزان النبطي, وقوافيه نبطية الطابع, وأسلوبه بين هذا وهذا, لكنه لم يلتزم بالنحو لأنه لم يُقدّم على أنه فصيح.. ومثل هذا الشعر الحداثي الصبغة, اللافت الشكل أغلب من يكتبه هم المثقفون من شعراء النبط, لأنه شعر يقدم نموذجاً للامتزاج الثقافي من خلال عرض الفكر بالشعر, على أساس أن الشعر فن وتعبير وبوح خاص بغض النظر عن الشكل والنموذج الذي يقدم به.. وهذا يُمثل امتداداً لخط التجديد الذي تبناه أبوتمام وغيره في القرن الثالث الهجري.. لكن عشاق الأصالة ينفرون منه ولا يرونه شعراً, فالشعر عندهم تعبير عن المشاعر بتلقائية طبيعية غير مكبلة بقيود أياً كانت فكرية أو لغوية أو غيرها. ومهما تكن منطلقات هذا الشعر، فإني لا أجد في نفسي قبولاً لتوظيف تعبير مثل (ضقت ذرعا) أو عبارة (لم تَقْتَن) التي جُلبت لمجرد مجانسة عبارة (لم تُتْقن) في الشطر الثاني من البيت نفسه, وهذا الإصرار على البديع يذكرني بما يلي: قال أبو الفضل بن العميد: خرج الصاحب بن عباد من «الريّ» يريد «أصبهان» ومنزله ب»رامين» وهي قرية كالمدينة فتجاوزها إلى «النُّوبهار» وهي قرية عامرة وماء ملح, لغير شيء إلا ليكتب إلي: كتابي هذا من النُّوبهار يوم السبت في نصف النهار! ) في الحلقة القادمة نقدم نماذج للتفاصح في شعر كل من (محمد العجيمي - ضيدان بن قضعان - عبد المجيد الحيسوني). [email protected] تويتر alkadi61@