تصدر وزارة الداخلية في بلادنا من حين لآخر بيانات مهمة توضح فيها للمواطنين ما تقوم به من جهود لمحاربة الغلو والتطرف باعتباره يدعو إلى العزلة وعدم التعايش مع العالم المعاصر بعيداً عن سماحة ديننا ومجتمعنا وعاداته وتقاليده، فسيدنا عليه الصلاة والسلام يقول (بعثت بالحنيفية السمحة) وهو ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ذلك أنه لأمر مستغرب أن يوجد في بلادنا من يحمل مثل هذه الأفكار، وربما يعود ذلك بسبب الفهم الخاطئ لدين الإسلام الحنيف وذلك لعدم التعمق في مصطلحاته ومبادئه والذي أدى هذا الفهم إلى تبني أفكار غير واقعية أو منطقية كالمطالبة بمقاطعة دول الغرب وترحيل مواطنيها، فضلاً عن كون هذه الأفكار تتعارض مع الدين الحنيف الذي يحث على التسامح والرحمة والرقة لكون الإسلام الحنيف هو دين كل زمان ومكان، كما أنه يحث على احترام الإنسانية ودعوتها إلى الدين الخاتم باليسر والحسنى { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}الآية (125) من سورة (النحل )، فالإسلام لم يخصص لفئة دون فئة أخرى ولا لأمة دون أمة أخرى بل إنه قد جاء للجميع {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الآية (107 من سورة الأنبياء ). إنه الدين الذي لم يمنع التعاون مع غير المنكرين لديننا أو رسولنا صلى الله عليه وسلم أو مع من لا يعتدون علينا أو ويهضمون حقوقنا خاصة مع ضعف العرب والمسلمين في العصر الحاضر وحاجتهم إلى غيرهم ممن بلغوا شأناً في المدنية والتقدم فمثلاً: تعتبر بلادنا أكبر دول العالم في احتياطي البترول تلك المادة الحيوية التي لا تستغني عنها دول العالم، كما أنها تعتبر أكبر منتج لهذه المادة المهمة، ولم يكن في بلادنا في السابق الخبرة الكافية لاكتشاف هذه المادة في عمق الأرض، ولقد سخر الله لنا أولئك الذين ساعدونا وهم من غير المسلمين في اكتشاف هذه المادة وتصديرها، بل واستهلاكها من قبلهم باعتبار ما لديهم من مصانع وشركات كبيرة واقتصاد متقدم. والسؤال هنا: أفلا يعتبر التعاون مع هؤلاء فيما يتعلق بهذه المادة التي تعتبر الممول الرئيسي لاقتصادنا مصلحة لنا؟ ومثل آخر أن الله عز وجل أمرنا في كتابه الكريم بإعداد القوة والاستعداد في المجال العسكري وإعداد القوة يختلف من عصر لعصر آخر، فإذا كانت القوة وقت ظهور الإسلام هي السيف والخيل والسهام وكثرة المقاتلين فإن القوة في عصرنا هي الصاروخ والطائرة والدبابة ووسائل الدفاع الجوي والبحري، ولأن المسلمين مع الأسف متأخرون في صنع هذه الأسلحة فما هو الإشكال في أن يتم التعاون مع غير المسلمين الذين بلغوا أوجاً من التقدم في مجال التقنية العسكرية والاستفادة منهم لتطوير قواتنا المسلحة لكي نكون وفقاً للأمر الإلهي مستعدين للدفاع عن ديننا وبلادنا؟ أفليس التعاون مع هؤلاء في هذا المجال يعتبر مصلحة لنا؟. إذاً ما دام الأمر كذلك فلماذا يوجد في بلادنا مثل هذه الأفكار الانعزالية كما أنه سبق أن أُستُهدفنا ببعض العمليات الإرهابية؟ أليست بلادنا مهبط الوحي وقبلة المسلمين؟ أليست توجد بها المشاعر المقدسة التي يؤمها المسلمون للعمرة والحج؟ أليس يوجد بها مثوى سيد الأولين والآخرين علية الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين الكرام ومثوى أمهات المؤمنين رضي الله عنهم جميعاً؟ أليست بلادنا هي الدولة الأولى في العالم التي تطبق كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام في الأحكام والمعاملات والأحوال الشخصية؟ أليست المملكة الدولة الوحيدة التي يوجد بها وزارة لشؤون الدعوة الإسلامية والتي قامت بإنشاء مكاتب للدعوة في مختلف أنحاء المعمورة للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أنها الدولة الوحيدة التي يوجد بها وزارة للحج من أجل التيسير على المسلمين في أداء شعيرة الحج المباركة، إضافة لذلك: ألم تقم بلادنا بإنشاء المساجد والمراكز الإسلامية في الكثير من دول العالم؟، كما قامت بمد يد المساعدة والعون للأقليات الإسلامية المحتاجة، فهل تغيرت تلك السياسات ذات الطابع الإسلامي والإنساني؟ بالطبع لم يتغير شيء من ذلك. من جانب آخر: هل مفهومنا للإسلام طوال السنين الماضية لم يكن المفهوم الصحيح فيكون استهداف المملكة بهذه الأفكار والأعمال الإرهابية من أجل تصحيح ذلك المفهوم؟ والإجابة أن مفهوم بلادنا الإسلامي هو المفهوم السلفي الوسطي المعتدل الذي لم يتغير منذ تأسيس الدولة لكونه يتمشى مع سماحة الإسلام، أما إذا كان المقصود هم الرعايا الغربيون العاملون في المملكة، فإنه إضافة إلى ما سبق أن ذكرنا بأن هؤلاء قدموا لبلادنا متعاونون في مجال التحديث والتطوير، فإنهم أيضاً مراعون لعاداتنا وتقاليدنا فكل اهتمامهم مركز على أعمالهم، إلا إذا كان استهدافهم يقصد منه زعزعة الاستقرار والأمن في المملكة، أو يكون الهدف تأليب دول هؤلاء للقيام بمزيد من الضغوط أو الإضرار لا سمح الله ببلادنا، وهما أمران مرفوضان ولا يخدمان المصلحة العامة أو الإسلام في شيء، فالأمن والاستقرار نعمة كبرى لا تقدر بثمن وعلينا أن نعتبر بما حصل في بعض الدول كالعراق الذي كان ينعم بالاستقرار والأمن إلا أنه بعد سقوط نظام الحكم تغير الوضع فيه من أمن إلى خوف، ومن نظام إلى فوضى وسلب ونهب وقتل. إن المسلمين اليوم في حالة ضعف عام وتأخر عن ركب الحضارة المعاصرة، وإن الواجب عليهم التعايش مع الآخرين بما لا يسيء إلى تعاليم دينهم مع العمل الجاد في سبيل الاستفادة مما وصل إليه العالم المتحضر من تقدم وتقنية، وفي نفس الوقت القيام بالدعوة لدين الإسلام العظيم باللين و الشفافية والأسوة الحسنة وليس بالعمليات الإرهابية أو بغرض الأفكار المتطرفة والتي لن تحقق تقدماً يذكر للمسلمين بل العكس أنها تشوه ديننا أمام الآخرين وتجعلنا أمامهم وكأننا ننتمي للوحشية وليس للإنسانية، فالإسلام يتسم بأنه دين سماحة وسلام واستقرار ورحمة وإنسانية، وأن أسلوب الدعوة إليه ينبغي أن يكون بالحسنى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}الآية (125 من سورة النحل)، وليس بالقوة والإكراه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}الآية (256 من سورة البقرة )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كُلَّف من ربه بحمل الأمانة ظل يدعو بني قومه رغم تشددهم ضده بأسلوب اللين والحسنى بل إنه تحمل الأذى منهم ولم يقابله بمثله إلى أن هداهم الله للحق. كما أن الإسلام يحث على احترام المعاهدين وسلامة حياتهم (من قتل معاهداً فأنا حجيجة يوم القيامة) رواه البخاري، وفضلاً عن ذلك، فإن هذه التصرفات تسيء للإسلام والمسلمين أمام العالم؛ حيث تعطيهم الانطباع بأن دين الإسلام يدعو للقتل والتدمير وربما يؤدي ذلك إلى الإحجام عن الدخول في هذا الدين أو ارتداد بعض معتنقيه، في حين أن العكس هو الصحيح، وهو أن الإسلام دين رحمة وسلام وإنسانية. كما أن هذه الأحداث تؤدي إلى قتل أو إيذاء أناس أبرياء بل مسلمون وعرب منهم الأطفال والنساء وكبار السن، كما تؤدي إلى تشويه سمعة بلادهم وشعور الغير بأنها بلاد غير آمنة وغير مستقرة. إن مكافحة الإرهاب واحتواء نشء الأمة وإبعادهم عن التطرف والغلو تتطلب العديد من الجهود المشتركة. ومن ذلك ما يلي: * إعداد مناهج الثقافة الإسلامية في المؤسسات التعليمية على أساس سماحة الدين ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان وأنه لا يقوم على أساس الإكراه، بل بالحكمة والحسنى، وأن هذه الديمومة للدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تتطلب توافق الدين مع متطلبات كل عصر فيما لا يتعارض مع القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية؛ فالإسلام لا يناقض العلم أو المدنية أو التحضر بدليل أنه لم يورد سوى القواعد الأساسية والجزئيات الخاصة بالعصر الذي وجد فيه تاركاً الجزئيات الخاصة بالعصور اللاحقة لأهلها بحيث توضع بما لا يعارض أسس الشريعة الإسلامية وقواعدها الثابتة، وبما يتناسب مع ظروف عصرهم الذي يعيشون فيه، فالإسلام دين كل زمان ومكان. * أن يكون هناك دقة في اختيار القائمين على العملية التربوية، بحيث تكون أفكارهم بعيدة عن التطرف والغلو وأن يغرسوا في عقول النشء روحانية الإسلام وسماحته. * أن يقف المجتمع بأسره ضد التطرف والغلو وإنكارهما من أي كان، وأن على كل أسرة متابعة أحوال أبنائها حتى لا ينجرفوا في هذا الميدان، وإذا حصل وحدث شيء من ذلك، فعلى الأسرة معالجته والتصدي له، وعدم تركه حتى ولو أدى ذلك إلى الاستعانة بالآخرين في هذه المعالجة؛ سواء من الدعاة المعتدلين أو الإدارات الحكومية المعنية بذلك، كما أن على المجتمع التعاون مع الأجهزة الحكومية المعنية في معالجة هذه الظاهرة والعمل على اختفائها. * زرع الثقة بين أفراد المجتمع وبين المجتمع والجهات المعنية، وألا تكون الشكوك والظنون هي الأساس الذي تبنى عليه القرارات وتُفَض بموجبة الصداقات والعلاقات فالله عز وجل ذم الحكم على الأشياء بمجرد الظنون فقط (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الآية (12 من سورة الحجرات). * أن تتعاون الدول في سبيل مكافحة التطرف والغلو اللذين يؤديان للإرهاب حتى ولو كانت بعض هذه الدول ليس فيها حالياً إرهاب أو أفكار متطرفة فقد تدور دائرة الزمن وتصاب بداء التطرف والإرهاب لا سمح الله. وتعاون الدول في هذا المجال يتم بعدة طرق، ومن ذلك عدم إيواء المتطرفين أو التعاون معهم، وكذلك الانضمام للمركز الدولي لمكافحة الإرهاب الذي أُسَّسَ بالرياض. * إن تبرع المملكة مؤخراً بمبلغ مائة مليون دولار لصالح دعم عملية التصدي للإرهاب والفكر المتطرف سيكون له مردوده الطيب وسوف يشجع الدول الأخرى على التعاون في هذا المجال. [email protected] حائل