كما يهطل المطر في بلد استوائي دون مقدمات من بروق ورعود جاء ديوان (تفقد غيابك) للشاعرة المبدعة الدكتورة هيفاء الحمدان - من إصدارات النادي الأدبي بالرياض - فلم يسبقه ضجة إعلامية ولا إعلانات أو إرهاصات، ومع أنه الديوان الأول للدكتورة هيفاء فقد جاء مكتمل الولادة كما البدر في ليلة الخامس عشر.. جاء رصيناً في أفكاره جزلاً في لغته منوعاً في موضوعاته، وكأني بها كانت أمام بحر زاخر باللآلي والأصداف فلم يعجزها انتقاء هذه المجموعة. جاء الديوان في اثنتي عشرة ومائة صفحة ضم خمسا وعشرين قصيدة ومقطوعة، شكّل الشعر العمودي جزءاً كبيراً من الديوان (عشر قصائد) واستأثر الشعر الحر - أو شعر التفعيلة - بما تبقى (خمس عشرة قصيدة).. القصائد العمودية فيها رصانة تذكرنا بعصور ازدهار الشعر، يتضح ذلك جلياً في اختيار البحور مثل البسيط والكامل والوافر، ويأتي التصريع في مستهل قصائدها العمودية - ما عدا واحدة - ليؤكد شدة انتماء شاعريتها إلى تلك العصور.. تمثل القصائد العاطفية والوجدانية السمة الأبرز في الديوان لكنها عاطفة متزنة توزعتها الأشواق والأحزان بما يتصل بذلك من مناجاة طيف أو عتاب حبيب، يظهر ذلك جلياً حتى من خلال عناوين القصائد مثل: طيف، قطاف الشوق، تفقد غيابك، وداع.. ولها قصيدة وطنية لا يمكن أن نخرجها من مسار الشعر العاطفي بعنوان «ابتسامة حب في وجه الوطن»، وقصيدة أخرى هجائية - تقول إنها ترددت في تثبيتها في الديوان - جاءت على جزالتها هادئة النبرة بعيدة كل البعد عن فاحش القول لأنها - كما يبدو من القصيدة ومن خلق هيفاء - موجهة إلى نموذج وليست إلى شخص بعينه.. وللطبيعة نصيب من الديوان فقد خصصت مقطوعة للمطر، إضافة إلى إشارات متفرقة في الديوان؛ كما في قصيدتيها نهر وظلال، وزهرة الياسمين.. ولا تخلو قصائد الديوان من حكمة ظاهرة تذكرنا بأسلوب زهير وأبي الطيب.. كمثل قولها: حلو الليالي حثيث في تصرمه والمر منها جثوم ليس يطويها وقولها: وذر الدموع على الخدود سواجما ما طاب جرح لم ينل تطبيبا وتتكئ شاعرتنا كثيراً على التراث لا في العنوانات فحسب مثل (قفا نبك) بل في كثير من صفحات الديوان.. ويستطيع القارئ بكل سهولة تلمس الأثر القرآني في قصائد الشاعرة كقولها: جنة في عرضها مليون باع.. وذراع.. كرْمُها ها قد دنا ثم تدلى.. وكذلك وصفها للريح بالرُّخاء كما وصفها القرآن الكريم.. تقول الشاعرة هيفاء: كل ما أرجوه نهر وشراع.. ونسيماتٌ رخاء! كما يلاحظ استخدامها لبعض المفردات المعجمية لكنها تضيف إلى قصائدها من الجزالة اللفظية أكثر ما تمنحها من التعقيد اللفظي.. انظر إلى كلمة (نعيب) بمعنى الإسراع في السير في قولها: وقف الظعائن يستزدن من الجوى لما استحال حداؤهن نعيبا وكذلك (وجيب) في قولها: تلك الظعائن ما لقين من الهوى حتى وجدت لذكرهن وجيبا وللشاعرة تضمينات واقتباسات جميلة كمثل تضمينها في الشطر الثاني من البيت التالي قول الدكتور عبدالله الفيفي: وهبتك روحي وكل انتمائي (وهل كنت أنت سوى مقلتيّا) وكذلك اقتباسها قول جبران خليل جبران: ضج فيه الحزن حتى ليس يدري ما يواتي (أعطه الناي وغنّ) نال حزني من ثباتي وكذلك اقتباسها قول إبراهيم ناجي مع التصرف فيه: ركب الليل جوادا ثم غنى: هل رأى الحب (حيارى) مثلنا!! وشعر الدكتورة هيفاء فيه صور بيانية جميلة لا يمكن للقارئ إلا أن يقف عندها مشدوهاً، ونماذجها كثيرة مبثوثة في أنحاء الديوان لكني سأعرض لما يمكن أن يستوعبه هذا الحيز. من الصور التي شدتني وصفها لاشتداد الظلام بالإيناع: (وأينع الظلام) وكقولها من قصيدة أخرى : سنقبس من جبين الشمس أضواء صباحية!! ومن تلك الصور البديعة وصفها لأقوال الوشاة بالشَّرَك: أرخيت للظن الجهول مسامعا ونصبت من قول النجي شراكا واختتم قراءتي هذه السريعة للديوان بوقفات الشاعرة مع الطبيعة ومكنوناتها ومع الأشياء الاعتيادية التي نمر بها ونستخدمها كل يوم وكأنها ترى فيها ما لا يراه الآخرون الذين يمرون على هذه الأشياء مر الكرام دون أن تثير فيهم شعورا أو عاطفة.. ها هي تخاطب الشموع وكأنها تتألم لها وتتعجب من شموخها: أراقب الشموع.. واقفة تذوب في ألم.. لكنها - وإن بكت - تذوب شامخة.. وحين تمر بها السحابة تنظر إليها معلقة أمانيها في صدرها: وحين تمر السحابة قربي أعلق في صدرها أمنية أقول وكلي ابتهاج الحقول قريباً تكون الأماني ليه واختتم بهذه المقطوعة الجميلة التي تخاطب بها المطر معاتبة إياه على الغياب ومسائلة إياه ما الذي أتى به.. أشوق أهاجه أم وجد هزه؟! أيها المطر.. ها أنت عدت أيها المطر!! فكيف قل لي كان ذا الغياب؟! وكيف كنت أنت والسحاب؟ في غربة القطيعة.. أهاجك الشوق فجئت تعتذر؟! وهزك الوجد فرحت تنهمر؟! أي الوجوه حركت بدفئها لواعج العتاب؟! أي العيون أيها.. دعتك للإياب؟!