فيلكة إحدى الجزر الثلاث الرئيسة في الخليج العربي وإحدى محطات نقل السلع التجارية إلى بلاد الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد وربما أقدم. كانت تنقل عبرها السلع المهمة لبلاد الرافدين وبلاد الشام خلال العصور المبكرة يوم أن كانت تجارة المعادن مثل الذهب والفضة والنحاس هي المسيطرة، نظراً لعدم توفر تلك المعادن في بلاد الرافدين وبلاد الشام من جانب، وحاجة دويلات المدن المتنافسة والمتحاربة في كلا المكانين من الجانب الآخر. وفي الألفين الثاني والأول قبل الميلاد نشطت حركة التجارة في مواد العطور التي أصبحت في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد جزءاً من حياة الإنسان العقدية لارتباط العطور وبخاصة البخور (الدخون) واللبان والممر والمستكة بتطيب أماكن التعبد وإحياء الاحتفالات الدينية والوطنية ومناسبات الأفراح، فنشطت تجارته إلى الشرق والغرب. صُدرت هذه التجارة من جنوب شبه الجزيرة العربية عبر البر والبحر وكان لطريق الخليج العربي البحري دور فيها، وبأثره نمت حضارة الجزر مثل البحرين وتاروتوفيلكه، وعاشت لآلاف السنين ولم تتدهور إلا بانهيار تجارة الطيوب وتقلص الحاجة إليها، وتنشيط النقل البحري عبر البحر الأحمر الذي بسببه انصرف جزء من تجارة الخليج العربي إلى البحر الأحمر وبخاصة خلال السيطرة الرومانية ومعرفة مواسم هبوب الرياح الموسمية مما مكن البحارة من الإبحار شمالاً. عندما كنا طلاباً في جامعة الملك سعود في نهاية القرن الهجري الماضي وأوائل القرن الحالي في قسم الآثار والمتاحف كنا نسمع عن آثار جزيرة فيلكة التي كانت أحد محطات أعمال البعثة الدانمركية الثانية التي أشرف عليها الباحثان الأثريان جلوب وبيبي. أتذكر أننا كنا نقرأ تقريراً مترجماً عن أعمال تلك البعثة في تلك الجزيرة نشر عام 1968م وكنت واحداً ممن يتمنون رؤية الآثار التي تحدثت عنها تلك البعثة ومكانها، فالأماكن الأثرية دون رؤيتها لا يمكن تصورها. لقد حاولت في العام 2002م القيام بزيارة لها أثناء وجودي في دولة الكويت ولكن لم يكتب لمحاولتي النجاح بسبب الأوضاع الأمنية في الجزيرة آنذاك. وفي الشهر الخامس لعام 1431ه قمت بصحبة الأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم الغبان والأستاذ سلطان بن مطلق الدويش مسئول التنقيبات الأثرية في الجزيرة بالتوجه إلى ساحل الخليج العربي للركوب في قارب سريع أعده لنا، واستغرقت الرحلة قرابة الساعة حتى أصبحنا في جزيرة فيلكة، حيث رأينا التاريخ مصوراً منذ أقدم العصور ومستمراً حتى الوقت الحاضر يتحدث إلينا من الأرض. فجزيرة فيلكة عبارة عن خارطة تكونها مواقع أثرية ينتظم فيها تسلسل الزمن ممتداً لآلاف السنين. كانت الزيارة نموذجية بحق، فالجو كان جميلاً والاستعداد كان رائعاً، فعند وصولنا إلى الجزيرة بدأنا جولتنا بالوقوف على موقع دلمون، ذلك الموقع الذي لا يبعد عن مياه الخليج إلا قليلاً، وهو الموقع الذي قامت البعثة الدانمركية بتنقيبه في ستينيات القرن الماضي. أجمل ما شاهدنا في الموقع عمارته المنتظمة ذات المساحات المعقولة والخدمات المتكاملة على الرغم من بعده الزمني، ولعل أهم ملاحظتين وصلت إليهما هما: 1- وجود أفران واضحة لشواء الأواني الفخارية ذات أشكال مربعة وكل منها يحتوي على مكان إشعال الوقود، وهو مبني بالآجر غير المشوي وقريبة من المنطقة السكنية. 2- وجود قنوات مياه جيدة البناء بألواح حجرية ومفروشة بألواح حجرية منتظمة، ويظهر أنها كانت مسقوفة، وتجلب الماء من خارج المنازل إلى داخل الحي وربما أنها كانت توزع الماء على المساكن لتملأ خزانات يستخدمها أهل المستوطنة. ثم قمنا بالوقوف على المستوطنة الهلنستية التي لا تبعد عن مستوطنة الألف الثالث وأوائل الألف الثاني (دلمون)، كثيراً وتقوم على مستوطنة دلمونية ترقد تحتها. يلاحظ أن بناء المدينة الهلنستية منتظم، وبوحدات أكبر، ويوجد بوسطها معبد كبير مشيد بقطع حجرية مقطوعة قطعاً جيداً، وأرضه مفروش بالبلاطات الحجرية. ويوجد بجوار المعبد مذبح كبير بشكل مستطيل وإلى جانبه مذبح مستدير وصغير أقدم من منه. ثم وقفنا على قصر كبير غاية في الانتظام والتوزيع المكاني يعتقد أنه كان قصر حاكم الجزيرة خلال الفترة الهلنستية. ومما رأيناه في جزيرة فيلكه، خاصة الموقع الهلنستي، أدركنا أن الحضارة اليونانية حضارة قائمة على العلم والمعرفة، وما كان انتشارها عسكرياً خارج حدودها المكانية إلا استجابة إلى ما وصلت إليه من تطور معرفي. ومع سرعة نهوضها وانتشارها جاءت نهايتها سريعة أيضا فعندما شارفت على احتلال نصف الكرة الأرضية الشرقي انهارت وقُسمت وضعفت صارعت بقاياها لقرنين أو ثلاثة في بعض الأماكن لتأتي قوة الرومان وتبتلعها مرة وإلى الأبد. بعد ذلك قمنا بجولة سريعة على المواقع الإسلامية المتناثرة في أرجاء الجزيرة والقريبة من سواحل الخليج المحيط بها. ووقفنا على بعضها وشاهدنا الفخار الإسلامي المزجج باللونين الأخضر والأزرق منتشراً على سطوحها. كما قمنا بالوقوف على عدد من القلاع الإسلامية المؤرخة بفترات مختلفة. الحقيقة أن الجزيرة متحف للماضي في ذلك الجزء الجميل من الخليج العربي. ومن الواضح أنها لم تأخذ نصيبها من الأعمال الميدانية على الرغم من وجود عشرات المواقع الأثرية القديمة والإسلامية فيها، وبحق تستحق أن تكون موقعاً أثرياً عالمياً خاصة أن أجزاء كبيرة من الجزيرة لم تتعرض بعد للأعمال الإنسانية الحديثة، مما يؤكد احتفاظها بآثارها سليمة تحت سطح الأرض كما تركها أهلها. في حالة الاهتمام بهذه الجزيرة وإعطائها اهتماماً إعلامياً وتهيئة سياحية وإعادة تأهيل سوف تكون لؤلؤة الخليج، بل سوف تكون مقصداً سياحياً عالمياً ذو مردود كبير من حيث الاقتصاد والتنزه. رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للدراسات الأثرية وأستاذ الآثار والتاريخ القديم في جامعة الملك سعود