قبل أن يستغرب القارئ الكريم من هذا العنوان يجب أن أوضّح المقصود: لا أقصد الاجترار العضوي المعروف. هناك كائنات مثل الإبل والزراف منحها الله قدرة مدهشة، فخَلَقَ معدة هذه الكائنات بطريقة معقدة بحيث تحوي أكثر من قسم، وإذا أكل الكائن طعاماً فإنه يذهب للمعدة مثل الكثير من الكائنات الأخرى، إلا أن الفرق هنا هو أن هذا الكائن يستطيع أن يسترجع الطعام من المعدة ويمضغه من جديد، وهذا يساعد على تفكيك وهضم المواد الغذائية -الألياف مثلاً- وزيادة انتفاع الكائن بها. لكن ليس هذا هو الاجترار الذي قصدته في تحذيري، فالاجترار العضوي نافع ويمدّ الكائن بالمواد الغذائية المفيدة، أما ما أعنيه بالعنوان فهو الاجترار النفسي، وهو شيء ضار جداً ولا يكاد ينجو منه إنسان. من الأدعية التي علّمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعاء شهير في صحيح البخاري: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وضَلَعِ الدَّينِ ، وغَلبةِ الرِّجالِ»، فهنا علَّمنا عليه الصلاة والسلام أن نستعيذ من أشياء سلبية، والذي نريده منها هنا هو الحَزَن، والفرق بينه وبين الهمّ أن الهمّ يخص المستقبل أما الحزن فهو للماضي، وعلينا أن نأخذ بالأسباب لكي نتفادى الحزن، وأحد هذه الأسباب المهمة هو أن نتفادى الاجترار. ما هو الاجترار؟ إنه أن تسترجع ذكرىً أليمة باستمرار. هذه الذكرى قد يكون مضى عليها أيام أو أشهر أو حتى سنين، فتسترجعها وتتألم منها، وتسخط على من فيها من الناس أو حتى على نفسك أنك قلت شيئاً أو فعلت شيئاً، وتعيش هذه الذكرى بالتفصيل فيهبط عليك الحزن والغضب، وتتمنى لو تعود للماضي لتصلح ما حصل، ولكن تدرك أن هذا غير ممكن، فتعود للذكرى وتتخيلها بطريقة أخرى وتقول: هذا ما كان يجب أن أقوله! ولكن الأمر لا ينطبق على هذه الذكرى فقط، بل يمرّ في عقلك موقف آخر حصل قديماً، وهكذا دواليك تأخذ في استرجاع واجترار الذكريات الأليمة وتجلب لنفسك الغمّ والكدر. هذا هو الاجترار النفسي، وهو شيء لا يَسلم منه أحد، غير أنه يتفاوت، فأكثر الناس يجتر لا شعورياً إذا مرّ بموقف يُذكّره بموقف أليم من الماضي، ولكن هناك من يجترّ الذكريات الأليمة بشكلٍ متواصل سواءً بسبب أو بدون سبب، وهذا باب ليس للحزن فقط بل لأمراض نفسية قاسية مثل الاكتئاب والقلق وحتى جسدية كارتفاع ضغط الدم، وتدفع أصحابها للتعامل مع هذه الضغوط بطرق مُتلفة للصحة مثل الإفراط في الأكل أو تناول المواد الضارة ليتناسى هذا الواقع الموجع، والأسوأ أن الاجترار يعزّز الشعور بالعجز والضعف مما يزيد الألم فيصير الأمر حلقة مفرغة. هناك بعض الخطوات للتعامل مع الاجترار، فأولاً اللجوء إلى الله بالصلاة، وكذلك الدعاء ومنه الدعاء المذكور، وبعد هذا الانخراط في أشياء تشجّع التفكير الإيجابي مثل الرياضة والهوايات النافعة، وأخيراً تغيير نمط التفكير، فالذين يجترّون يغلب عليهم أن يسألوا أسئلة نظرية مثل: لماذا حصل لي هذا؟ بينما يجب توجيه هذا التفكير إلى شيء عملي وذلك بأن تحاول إيجاد طريقة واحدة على الأقل تستطيع بها أن تحل تلك المشكلة فيما لو حصلت مرة أخرى، فمثلاً إذا أسخطك أن مديرك في العمل ظلمك فلا تقل: «لماذا تحصل لي هذه المواقف المؤلمة؟»، بل قل: سأسأل مديري كيف يمكنني أن أنال تقييماً أفضل، وهكذا. هذه الوسائل ستخفف بإذن الله من الاجترار وأثره السيء. Twitter: @i_alammar