تعتبر الدراسات أو الكتابات المتعلقة بتوصيف النموذج الاقتصادي السعودي نادرة إلى حد كبير، إن لم تكن غير متاحة أساسا .. وتعتبر المملكة من الدول النفطية الكبرى التي تمتلك أعلى حصة في احتياطيات النفط الخام بما يوازي 18% من الاحتياطيات العالمية، كما تمتلك حوالي 4.0% من احتياطات الغاز الطبيعي العالمية .. لذلك، فإن الحديث عن النموذج الاقتصادي السعودي لا يزال يتمحور حول نفطية الدولة وسلوك إنفاق الدخل النفطي .. أما الحديث عن نموذج إدارة اقتصادية حقيقي للاقتصاد السعودي لا يزال مفتقدا داخل أروقة الباحثين والأكاديميين بشكل كبير. وإذا أردنا أن نضع توصيفا موجزا للنموذج الاقتصادي السعودي، فسيكون كما يلي: «هو نموذج يعتمد فيه النمو الاقتصادي على الدور الحكومي للدولة التي تتولى تحديد مخصصات ومسارات الإنفاق الحكومي حسب أولويات إنمائية معينة ومخططة .. فالنجاح هنا مرتبط بجودة الإدارة الحكومية في تحديد أولويات الإنفاق العام، والسعي لتحديد القطاعات غير النفطية الأولى بالرعاية، والتي تتسم بفرص النمو القوي .. لذلك، فإن توصيف السياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة يمكن أن يختزل جوهريا في سياسة مالية تقوم على التوسع في الانفاق الحكومي المتحفظ .. وفي خضم ذلك إفساح المجال لمشاركة فاعلة من القطاع الخاص، بشكل يمكنه من اتخاذ مواقع قوية في قطاعات معينة، ينسحب منها الدور الحكومي شيئا فشيئا .. أيضا بدأت ملامح سياسة اقتصادية تدير تنويعا اقتصاديا يعتمد على التميز النسبي في منتجات النفط والغاز، لتظهر معها صناعة بتروكيماوية رائدة .. «. توصيف النماذج الاقتصادية وأشكالها .. إن قصص النمو الاقتصادي وتميز الإدارة الاقتصادية لها نماذج رائدة في العديد من دول العالم، فسنغافورة، وماليزيا وما يطلق عليها دول النمور الآسيوية تمتلك الريادة في تقديم نماذج ذات وصفات اقتصادية ملموسة التميز .. فعلى سبيل المثال التحول الكبير الذي شهدته سنغافورة أو ماليزيا غني عن التوصيف، والصادرات الصناعية التي اخترقت كافة دول العالم واضحة للعيان. والنماذج الاقتصادية تعزوها بعض الكتابات إلى عدد من الأنماط، التي تتمثل في : النمط الرأسمالي، والنمط الاشتراكي، بجانب نمط ثالث أصبح شهيرا، وهو النمط المختلط، كاقتصاد السوق الاشتراكي، وهو النموذج الذي تبنته الصين وأحرزت به نجاحات باهرة .. ويعتبر النموذج الرأسمالي هو النموذج المسيطر عالميا، وهو يمتلك ثلاثة أشكال شهيرة، هي : رأسمالية الدولة، ورأسمالية احتكار القلة، ورأسمالية القطاع الخاص أو الشركات. ملامح النموذج الاقتصادي السعودي .. إن السعي لتوصيف النموذج الاقتصادي السعودي تعتبر مهمة صعبة، وقد تتسبب في كثير من الجدل، وتنبع الصعوبة في عدم وجود شكل محدد الملامح لهذا النموذج .. فالنموذج الاقتصادي السعودي قد تبلور من رحم المستجدات، وسار في طريق استغلال الفرص ونقاط القوة التي يكتسبها الاقتصاد الوطني من واقع أي فرص أو مستجدات .. فاعتماد الاقتصاد الوطني بشكل كبير على الإيرادات النفطية، أدى به إلى التغير مع تغير الأسعار العالمية للنفط، فأي تقلب سياسي إقليمي أو عالمي غالبا ما يترك أثرا جوهريا على أسعار النفط، وهذا التأثير غالبا ما يتمثل في ارتفاع في هذه الأسعار العالمية، بشكل يحقق للاقتصاد السعودي إيرادات حكومية عالية. أولا : السمة النفطية للاقتصاد الوطني .. رغم أن السمة النفطية ليست ضمن تشكيلة النموذج الاقتصادي، إلا إنها السمة الأولى التي يتصف بها الاقتصاد الوطني .. ونعدها سمة، لأن الدول المتقدمة سعت جاهدة لتقليص اعتمادها على النفط الأحفوري، بالسعي لإيجاد بدائل أخرى له كالوقود الحيوي، إلا إن كافة جهودها حتى الآن لم ترق إلى المستوى التجاري حتى تعتبر بديلا كاملا للنفط .. لذلك، فإن النفط للمملكة رغم كل ما يقال عن النضوب وتلاشي الإيرادات بعد عدد من السنوات (تختلف الدراسات حولها) فإنه يعتبر المورد الرئيس للدولة وللاقتصاد .. فالاقتصاد هو اقتصاد نفطي بالدرجة الأولى. ثانيا : قوة زخم الانفاق الحكومي .. المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني النفط في حد ذاته مورد يستخرج ويُصدر، إلا إن قوته وتميزه تتمثل في ما يولده من إيرادات حكومية ضخمة، أثبت تتبع الواقع على مدى العقود الأربعة الماضية على أنه مورد شبه دائم ومستمر، ولا توجد مخاوف انقطاعه، كما كان يروج منذ الثمانينيات .. ويشير تقرير لسامبا إلى أن حجم الاحتياطيات المتبقية من النفط حسب احصاءات يونيو 2012م يصل إلى 264.5 مليار برميل، وتصل حجم تدفقات رؤوس الأموال المتوقع تدفقها عند افتراض ثبات أسعار النفط عند مستوى 100 دولار إلى 21.2 تريليون دولار .. بشكل يحدد حجم الموارد المالية المستقبلية شبه المضمونة (حسب تجربة الماضي) .. ورغم كل ذلك، إلا إن الإدارة الحكومية بالمملكة تسعى جاهدة للأخذ بمنظور التحفظ في استمرارية الإيرادات النفطية ، بدليل الشكل الاندفاعي تجاه التنويع الاقتصادي، وهذا الشكل الاندفاعي يمكن تلمسه بسهولة من جراء تتبع التطورات الدراماتيكية في مخصصات الانفاق الحكومي. ثالثا : اقتصاد السوق .. والانفتاح على العالم الخارجي .. تأخذ المملكة بقواعد السوق الحر في الواقع العملي .. فالإنتاج والأسعار والعرض والطلب جميعها تحكمها قواعد السوق بلا تدخل من الدولة .. فقوى العرض والطلب هي التي تحدد سعر أي سلعة أو خدمة .. بل إن الدولة تتبنى نوعا من الانفتاح على العالم الخارجي في صادراتها ووارداتها وحتى قطاع الاستثمار يسير حسب رؤية منفتحة، سواء كتدفقات للخارج أو الداخل. رابعا : النمو الاقتصادي المستدام .. والتنمية البشرية .. تتبنى الحكومة السعودية منهجا عمليا متحفظا في إنفاق الإيرادات الحكومية المتاحة في ضوء الارتفاعات المتكررة لأسعار النفط في الفترات الماضية، فهذه الارتفاعات يفترض أنها عَودت الاقتصاد الوطني على أحجام ضخمة للإنفاق، وبالتالي أوجدت هياكل إنفاقية متسعة، وتوجد مخاوف كبيرة نتيجة انتكاسة هذه الهياكل إن انخفضت أسعار النفط العالمية في أي وقت مستقبليا .. لذلك، فإن الإدارة الحكومية بالمملكة تركز على إيجاد مسارات للنمو الاقتصادي المستدام، القادر على تعويض النقص في الإيرادات الحكومية في أي وقت مستقبليا .. لذلك، فإن أعلى نسبة إنفاق حكومي جاءت على مر الثلاثين عاما الماضية خصصت لتنمية الموارد البشرية، حيث ارتفع حجم مخصصات الإنفاق على الموارد البشرية من 26.2 مليار ريال في عام 1981م إلى حوالي 167.9 مليار ريال في عام 2012م، أي أنها ارتفعت بما يعادل 539.8 % .. ولعل حجم المخصص للإنفاق على تنمية الموارد البشرية بالمملكة أصبح يفوق حجم الإنفاق الحكومي الإجمالي في ميزانيات كثير من الدول العربية .. بشكل يبرز مدى الاهتمام الحكومي بإيجاد البنية التحتية البشرية القادرة على قيادة النمو الاقتصادي في حال تراجعت أسعار النفط في أي وقت. خامسا : التنويع الاقتصادي القائم على البتروكيماويات .. رغم أن النفط هو المصدر الرئيسي للقلعة الصناعية السعودية .. فرغم ما يقال عن دولة المصدر الوحيد، إلا إن المملكة أحرزت نجاحا غير مسبوق في صناعة التكرير، والتي بنيت عليها أكبر قلعة تصنيع للبتروكيماويات بقيادة سابك. وفي اعتقادي أن صناعة البتروكيماويات لم تنل ما تستحقه من تقدير بالمملكة حتى الآن، فهي تصنيع حقيقي، يتطور من عام لآخر، وهذا التصنيع يمكن أن يكون هو المسار الناجح لتوجه التصنيع السعودي، فهو أساس التميز النسبي والتنافسي .. ولا يعيب الاقتصاد أن يكون اقتصادا نفطيا. ويشير أحد التقارير الحديثة لسامبا في عام 2012م إلى أن الكثير من الاقتصاديين يعتقدون أن المستقبل الاقتصادي للمملكة لا يمكن تأمينه إلا بتركيز جهود التنويع على القطاعات غير المتعلقة بالنفط والغاز .. ويرى هؤلاء أن التكرير وإنتاج البتروكيماويات، اللذين يرتبطان ارتباطا وثيقا إما بإنتاج الهيدروكربونات أو بأسعارها، سيعززان ببساطة من الاعتماد على الهيدروكربونات، ولن يقدما على أية حال مجالا كبيرا لزيادة فرص العمل. ويسوق تقرير سامبا ثلاثة مبررات يمكن من خلالها دحض الحجج التي يسوقها من يدعون إلى الانفصال التام عن الهيدروكربونات : (1) تكمن الميزة المقارنة للمملكة في الهيدروكربونات (فهي تملك على الأقل ما قيمته 90 سنة من الاحتياطيات النفطية)، ومن المنطقي استغلال هذه الميزة بتوفير قيمة مضافة أكبر. (2) ترتبط ربحية قطاع البتروكيماويات السعودي ارتباطا ضعيفا بسعر المنتجات الهيدروكربونية عنها في أي مكان آخر من العالم، وذلك لأن المنتجين السعوديين يستفيدون من توافر المواد الخام الأساسية المدعومة بشدة و/أو ذات الأسعار الثابتة، بينما ترتبط هوامش الربح لدى المنتجين العالميين الآخرين ارتباطا وثيقا بتكلفة المواد الخام الأساسية الهيدروكربونية. (3) بينما يعتبر تصنيع البتروكيماويات الأساسية من القطاعات ذات التركيز الرأسمالي العالي، وأنه بطبيعته لا يوفر فرص عمل كثيرة، إلا أن الانتقال إلى الحلقات اللاحقة من سلسلة المنتج، أي إلى المواد الوسيطة والبلاستيك، يولد قدرا كبيرا من فرص العمل. لذلك بات واضحا أن السياسة الحكومية تقوم بشكل واضح على التنويع الاقتصادي القائم على البتروكيماويات على المدى الطويل، بدليل تأسيس العديد من استراتيجيات المدن الاقتصادية الجديدة على أساس استغلال التميز النسبي للمملكة في النفط والغاز. سادسا : توزيع مصادر الدخل .. محور النمو بقطاع الأعمال .. اتبعت الحكومة السعودية أيضا سياسة اقتصادية أحدثت نوعا من التغيير الإيجابي على المستوى الاقتصادي العام، وهي السعي لتحويل جزء كبير من الكيانات الحكومية إلى قطاع أعمال يشترك في ملكيته القطاع الخاص أو الجمهور العام .. فقد طرحت حصص معينة من العديد من ملكيات الشركات الحكومية، مثل سابك والاتصالات والكهرباء وغيرها للجمهور العام للاكتتاب، بشكل ساعد على توزيع مصادر الدخل الحكومي، فعوضا عن تحمل الحكومة لكافة المخاطر الناجمة عن ملكيتها لهذه الكيانات، وزعت هذه الملكية على نطاق أكبر، بشكل مكن الدولة من التفرغ لإدارة كيانات عامة أخرى ذات أولوية، مثل المياه والصرف والتحلية والسكك الحديدية وغيرها .. وعليه، فإن الحكومة أوجدت مصدرا جديدا لتمويل القطاعات الاقتصادية، يتمثل في طرح على الجمهور العام أو القطاع الخاص في حد ذاته .. وهو ما يمكن أن نسميه بمحور النمو بقطاع الأعمال .. «رأسمالية الشركات « .. سابعا : محور النمو بالمدن الاقتصادية الكبرى .. «رأسمالية المدن» .. تخطط الحكومة السعودية لإقامة صناعات وقطاعات أعمال جديدة اعتمادا على استثمارات طموحة وطويلة المدى يتوقع حدوثها، عن طريق إطلاق عدد من المدن الاقتصادية الجديدة لتخفيف الضغوط الكبيرة التي تشهدها المدن الرئيسية الحالية المتمثلة في الرياضوجدة والدمام على بنيتها التحتية نتيجة النمو في القطاعات الاقتصادية غير النفطية، والتي أحدثت نوعا من التوسع العمراني الكبير الذي بدأ ينمو منذ السبعينات .. وتقوم الخطة الإستراتيجية لهذه المدن على اقتراح حدوث التنمية عبر العشرين عاما المقبلة. وتعتمد هذه الخطة بشكل رئيسي على القطاع الخاص كممول ومطور أساسي، فضلا عن السعي لجلب الاستثمار الأجنبي المباشر ليحتل مكانه المطلوب للتمويل وجلب التقنيات الحديثة .. وتهدف هذه المدن لاستيعاب عدد سكان يقدر بنحو 4.5 مليون نسمة في عام 2020م، فضلا عن ضخ قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي تقدر بحوالي 562.5 مليار ريال، فضلا عن إيجاد وظائف جديدة لنحو 1.6 مليون مواطن.