سوف تحتفل كل من المملكة العربية السعودية واليابان في العام القادم بمرور ستين عاماً على تأسيس العلاقات السياسية بين الدولتين. ولعل ذلك يشكل مناسبة لمراجعة العلاقات الاقتصادية بين البلدين الصديقين. تعتبر المملكة العربية السعودية أكثر دولة عربية جاذبة للاستثمارات الأجنبية؛ لأنها تتمتع بأكبر اقتصاد من جهة، ولأنها من جهة أخرى تبذل جهوداً حثيثة لاجتذاب هذه الاستثمارات عن طريق تحسين أنظمتها وتبسيط إجراءاتها وتقديم الحوافز التشجيعية الأخرى، بما في ذلك التمويل الميسر، يضاف إلى ذلك النظرة الإيجابية التي تنظر بها المؤسسات الدولية المتخصصة إلى الوضع الاقتصادي في المملكة، حيث أظهر البحث الذي أجراه البنك الدولي عام 2012 حول سهولة إجراءات ممارسة الأعمال في معظم دول العام أن المملكة تقع في المرتبة الثالثة عشرة (13) من بين تلك الدول متفوقة في ذلك على عدد من الدول الصناعية. كما رفعت وكالة التصنيف «فتش» المعروفة في شهر مارس الماضي تصنيف المملكة من حيث الملائمة المالية من مستقر إلى إيجابي وثبتت تصنيفها الائتماني AA-. هذا يعني أن المخاطر أقل من كثير من الدول، مما يشجع المستثمرين والبنوك على تملك الأصول السعودية دون الحاجة إلى تخصيص احتياطيات أو ربط جزء من رؤوس الأموال مقابل هذه الأصول. وعندما يقرر المستثمر الأجنبي الاستثمار في المملكة فإنه يدخل في اعتباره ليس فقط كبر حجم السوق السعودية وإنما أيضاً أسواق بقية دول مجلس التعاون، باعتبارها أصبحت كتلة اقتصادية واحدة. يضاف إلى ذلك أسواق بقية الدول العربية، خصوصاً تلك التي التزمت بتطبيق ما تم الاتفاق عليه في إطار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. اليابان من جانبها تتمتع باقتصاد قوي وحيوي وديناميكي ومتنوع يحتل المركز الثاني عالمياً دون منازع من حيث تملك التكنولوجيا والابتكارات العلمية بعد الولاياتالمتحدة. كما يحتل المركز الثالث بعد هذه الأخيرة والصين من حيث القيمة الشرائية للناتج المحلي الإجمالي. ولاشك أن كلتا الدولتين تواجهان تحديات كبيرة مثل غيرهما من الدول، إلا أن النقطة التي ينبغي إبرازها أن كلاً منهما تتمتع باستقرار سياسي منقطع النظير رغم وقوعهما في منطقتين تسودهما الاضطرابات والتغيرات والصراعات. اليابان الآن هي ثاني شريك تجاري للمملكة وهي الدولة الأولى التي تستورد منها المملكة السيارات، حيث تستحوذ على 30% من سوق السيارات في المملكة. من جهة أخرى فإن المملكة تحتل المركز الأول بين مصدري البترول لليابان. أما في مجالات الاستثمار فإن إحصاءات حديثة تظهر أن مجموع الاستثمارات اليابانية في المملكة في حدود 15 بليون دولار 87%، منها في المجالات الصناعية نصفها تقريباً في مجال البتروكيماويات. وتشكل هذه الاستثمارات 8.5% من مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة. أما من حيث الترتيب فإن اليابان تأتي في المركز الخامس من حيث الدول المستثمرة في المملكة. هذا الوضع يتطلب من الدولتين على المستويين الحكومي والقطاع الخاص البحث في كيفية معالجته. فيما يلي بعض الأفكار التي يمكن البناء عليها لدفع العلاقات الاقتصادية بين الدولتين إلى مجالات أرحب وأكثر ديمومة:- 1- لا تشكل الاستثمارات الأجنبية في اليابان إلا نسبة ضئيلة من ناتجها المحلي الإجمالي «في حدود 3%»، مقارنة بعشرة أضعاف هذه النسبة في معظم الدول الرئيسية من أعضاء منظمة التعاون والتنمية. ويعود السبب في ذلك إلى ارتفاع الضرائب في اليابان, وقلة مرونة سوق العمل هناك وعدم بذل الحكومة اليابانية جهوداً جادة لجذب الاستثمارات الأجنبية لدرجة أن الحكومة السابقة ألغت الوكالة المسؤولة عن جذب الاستثمارات الأجنبية. في ظل هذه الأوضاع فإن الاستثمارات السعودية في اليابان اقتصرت على استثمار مشترك في مجال البترول وبعض الاستثمارات الخاصة في الصناديق الاستثمارية. وقد أعلنت الحكومة اليابانية الجديدة عزمها على إعادة هيكلة الاقتصاد الياباني وزيادة حيويته بما في ذلك إحياء المؤسسة المسؤولة عن الاستثمارات الأجنبية. وفي حال نجاح هذه الجهود فإن الاستثمارات السعودية يمكن أن تجد السوق اليابانية مربحة طالما أن مناطق الاستثمار التقليدية, خصوصاً أوروبا, تتعرض حالياً لإجراءات غير مشجعة على الاستثمار مثل فرض ضرائب على المبادلات المالية ومصادرة الودائع في بعض المناطق والتوقعات المتشائمة للنمو. 2- إن المملكة من جانبها, خلال تاريخها الطويل, تحترم التزاماتها تجاه استقرار السوق البترولية، فقد استثمرت مبالغ طائلة من مواردها الذاتية لتوفير طاقة إنتاجية فائضة يمكن اللجوء إليها لتوفير الاستقرار المطلوب في هذه السوق, كما استثمرت مبالغ إضافية لتنويع منافذ التصدير, وفي مجالات التصفية والتخزين والتسويق في الدول المستهلكة ومنها اليابان. وقد ساهمت كل هذه الجهود في تخفيف تأثير الأزمات التي مرت بها المنطقة على السوق البترولية مثلما حصل أثناء الثورة الإيرانية, والحرب العراقية الإيرانية, واحتلال العراق لدولة الكويت, والحرب الأمريكية على العراق, والانقطاعات الأخيرة في إمدادات البترول الليبي. خلال كل هذه الأزمات الخمس قامت المملكة العربية السعودية بتوفير احتياجات اليابان من البترول، كما تخصص المملكة حالياً جزءاً من صادراتها البترولية للتخزين في اليابان ولتوفير الاحتياجات اليابانية من البترول بما في ذلك احتياجات المشروع الذي تشارك أرامكو في ملكيته مع شركة شل. وعليه فإن من حق المملكة أن تتوقع من اليابان معاملة مماثلة على هيئة زيادة الاستثمارات اليابانية في السوق السعودية. 3- إن العلاقات الحالية بين الدولتين التي تتمحور حول قيام المملكة بتوفير احتياجات اليابان من البترول وقيام اليابان بتصدير السيارات والأدوات الكهربائية المنزلية وغيرها من الصناعات ينبغي تطويرها إلى مجالات صناعية جديدة يكون ضمن نتائجها نقل المعرفة وانتقال التكنولوجيا والتدريب, لكي تتحول هذه العلاقة مع الزمن إلى شراكة حقيقية ودائمة بحيث نتعلم سوياً ونبتكر سوياً ونستفيد سوياً، فمن التحديات الرئيسية التي تواجهها المملكة, على سبيل المثال, النمو الهائل في الطلب على الطاقة بما في ذلك الكهرباء بمعدلات تفوق معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي. ومن الخيارات المتاحة في هذا المجال أمام المملكة ما يلي:- أ- تعديل أسعار الطاقة بما في ذلك وقود السيارات ورسوم وأسعار الكهرباء والماء. إن قرار مثل هذا خاص بالدولة السعودية وله جوانبه السياسية والفنية التي ينبغي أخذها في الاعتبار. ب- تكثيف جهود الترشيد, ولليابان دور رائد في هذا المجال. يمكن أن تتعاون الحكومتان ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص في الدولتين على نقل التجربة اليابانية إلى المملكة بما في ذلك مواصفات السيارات والمباني وأجهزة التكييف... الخ. ج- التوسع في استخدام الطاقة المتجددة:- لدى المملكة برنامج طموح لاستخدام الطاقة المتجددة بهدف إنتاج الكهرباء وعلى الأخص الطاقة الشمسية والطاقة النووية (1). تنتج المملكة حالياً الكهرباء باستخدام 63% بترول و37% غاز كوقود لمحطات الإنتاج (2). هناك عوامل عدة شجعت المملكة للتوجه نحو الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء، منها: الكم الهائل للوقود الأحفوري المستخدم بحيث بدأ يهدد قدرة المملكة على تصديره مستقبلاً (3), استمرار الانخفاض في تكاليف إنتاج الألواح الزجاجية المستخدمة في إنتاج الطاقة الشمسية, والتحسن المستمر في كفاءة إنتاج هذه الطاقة (4) والتأثير الإيجابي على البيئة, والتوجه التدريجي للتكامل الكهربائي والاعتماد المتبادل بين المملكة ومحيطها الإقليمي والدولي. تتميز المملكة بأنها ثاني دولة في العالم من حيث تركز الطاقة الشمسية وحدتها (أول مكان هو منطقة صغيرة في تشيلي), ولديها برنامج طموح في هذا المجال, وتقدم الكثير من الحوافز المادية, ولديها سوق كبير لاستهلاك الكهرباء داخل المملكة وفي محيطها الإقليمي والدولي. 4- وسعت المملكة برنامج التوازن الاقتصادي خارج المجال العسكري بحيث يشمل العقود المدنية كما أوكلت مهمة متابعة تنفيذه إلى وزارة الاقتصاد والتخطيط. ويشكل هذا البرنامج فرصة جديدة أمام الشركات اليابانية لاستغلاله وجلب المزيد من الاستثمارات للمملكة. 5- بعد مفاوضات طويلة تم في سبتمبر الماضي (2012) توقيع اتفاقية منع الازدواج الضريبي بين الدولتين. ومن واجب الحكومتين الصديقتين تعميم هذه الاتفاقية على القطاع الخاص وإبلاغ المستثمر بمزاياها لتشجيعه على الاستثمار. كما أن المفاوضات مازالت مستمرة بشأن إقرار اتفاقية أخرى لتشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة. ويبدو أنه تم الاتفاق على مجمل القضايا الرئيسية بشأنها. على الحكومتين الصديقتين الإسراع في استكمال مسودة هذه الاتفاقية والتوقيع عليها وتعميمها على قطاع الأعمال في الدولتين لتشجيع الاستثمار المتبادل. يبدو أن رئيس وزراء اليابان الحالي جاد في تطوير العلاقات الاقتصادية مع المملكة بدليل أن من أولى المهمات التي قام بها بعد اختياره رئيساً للوزراء إرسال أحد أهم وزرائه إلى الرياض لبحث الموضوع. من جهة أخرى فإن السياسية اليابانية الحالية الهادفة إلى تخفيض سعر صرف الين الياباني قد تؤثر سلباً على تدفق الاستثمارات اليابانية إلى المملكة. * * * هوامش: (1) تقدر بعض الدراسات تكلفة هذا البرنامج في حدود 100 بليون دولار انظر: Noriko Suzuki, Gulf Researching, 2013» The Role of Renewable الاقتصادية يوم 28-04-2013. وكذلك صحيفة الاقتصادية عدد يوم 28-4-2013 Energy in GCC-Japan Relation (2) الجمعية الإماراتية لصناعات الطاقة الشمسية ESIA «Mena Solar Market outlook» January 2013. (3) قدر استهلاك المملكة من البترول لتوليد الكهرباء في عام 2011 بنحو 582 ألف برميل في اليوم, أي بزيادة تصل نسبتها إلى 340% من استهلاك عام 2009. (4) قدرت التكلفة المتوسطة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية بمنطقة الشرق الأوسط في حدود 15.4 سنت أمريكي/ كيلوات/ ساعة. كما قدرت تكلفة آخر محطة تم التعاقد على إنشائها وإدارتها لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في المملكة في حدود 12 سنتا أمريكيا/ كيلوات/ ساعة. اقتصادي سعودي