إنها ليست بقصة رومانسية ولا بقصة قصيدة شعر، ولا حتَّى بقصة غنائية.. قصة الأمس للسيدة الراحلة أم كلثوم.. إنّها قصة إعلاميَّة صحافية لازالت عابقة برائحة الورق المصقول بحبر المطابع المستقى للقوالب الرصاصية في عملية الرص والصف، لتأتي المادَّة الصحافية متناسقة وفق المساق، وهي عملية شاقة وبطيئة، ناهيك عن معاناتها عند الفنيين، أتذكر منهم عبد الله العمير رئيس قسم الطباعة وزملاؤه الصحافيون، فالكلُّ حريصون على إيصال الصحيفة في وقتها إن كان الوصول للداخل حيث المقر الرئيس للصحيفة أو لمكاتبها في عموم المناطق الأخرى، كان ذلك في وقت مبكر من صدور الصحيفة «الجزيرة» قبل التحوّل الطارئ عليها من أسبوعية إلى يومية، برئاسة تحريرها خالد المالك، ومؤسسها الشيخ عبد الله بن خميس مرورًا بمن تقلَّد مهام رئاسة تحريرها وهم: عبد العزيز السويلم وعبد الرحمن المعمر، ومِنْ ثمَّ خالد المالك، ودخول صحافتنا المحليَّة لطباعة {الأوفست} الحديثة الزاهية الألوان والمختصرة لزمن الطباعة وصدور الصحيفة بوقت مبكر.. تلك قصة راسخة في تلابيب الذاكرة، لم تمحها عاديات الأيام والأعوام، فتبرز على شاشة الذاكرة بين فينة وأخرى، كأنّها تسير في معالم طرقها وشعابها وتأسرني في تذكار فيما كان عليه البعْض من نبل وشهامة ووطنيَّة تعدّت في مآثرها إنكار الذات.. وتذكر فيما كان عليه البعْض الآخر من بلادة وكسل وعدم مبالاة مصحوبة برعونة، ناهيك عن البحث عن وطنيته، التي هي من المفترض أن تكون لها الأولوية في نشاطه وهمَّته تجاه وطنه ومجتمعه. «الجزيرة» الصحيفة مدرسة صحفية عريقة، بذرة نواة طيبة وعديدة تخرج منها من تقلَّد مهام رئاسة تحرير مطبوعات أخرى. كالأساتذة الزُّملاء: عثمان العمير، محمد التونسي، عبدالرحمن الراشد.. وغيرهم من الزُّملاء الكتّاب والصحفيين، الذين يدينون لها بالولاء والأساتذة: حمد القاضي وعلي الشدي وحاسن البنيان وبدر الخريف.. وغيرهم.. ممَّن شكَّلوا منظومة ثقافيَّة صحافية خلقت قاعدة عريضة عند قارئ الصحيفة «الجزيرة»، وأن نأت بهم الحياة، فلا زالت الصحيفة تتمتع بقُوَّتها ورصانتها بوجود ربان الصحيفة خالد المالك، وكوكبة من الصحفيين والكتّاب الذي نقرأ لهم ونتابع خط وخطوات الصحيفة المتوثبة في عالم الصحافة المقروءة بتميز.. وأعود وأقول: كانت الصحيفة «الجزيرة» تصدر بِشَكلٍّ يوميٍّ ومنتظمٍ، عند القراء الذين يحظون بقراءتها حين صدورها بالرياض المنطقة وقراها، فكانت الصحيفة «الجزيرة» آنذاك تعاني من عملية نقل الصحيفة للمدن الأخرى التي لا تتوفر لها سبل المواصلات السَّريعة، وهذه مشكلة ظللنا نعاني منها نحن مسئولي مكاتب الصحيفة بالمناطق الأخرى، فالصحيفة تتأخر في وصولها للقارئ بهذه المدن البعيدة، فطرق المواصلات ضنينة جوًّا وبرًّا، فدعوني أحدثكم عن الجانب الذي يخصني بهذا الشأن، لكوني مسؤولاً عن مكتب الصحيفة بحائل سابقًا، وهو ما ترتب عليه معاناة شاقة وصعبة فما بالكم والمكتب حديث عهد لا يتوفر به غيري، فكنت المسئول والمراسل والموزع والمحاسب، وهذه ليست مركزية، بل الحاجة الملحة في مرحلة البناء لإيجاد مكتب صحفي يعتني ويهتمّ بشؤون المنطقة بغض النَّظر عن المكافأة والأبهة، في وجود الذات الخادمة للمنطقة والمجتمع.. وهذا ما عملت عليه في بداية مسيرتي ومسار عمل المكتب، وبما أن الأهمّ قبل المهم عملت على وصول الصحيفة بنفس اليوم لقارئها لمنطقة حائل، فتحدَّثت مع الزُّملاء بإدارة توزيع الصحيفة ومنهم الزميل عبد الرحمن الحنو، لإرسال الصحيفة عبر السيَّارات المنطلقة كل صبيحة يوم من الرياض إلى حائل، حيث مركز الغرابي، وهذا ما عمل بموجبه الزُّملاء آنذاك، فصارت الصحيفة تصلنا عصر كل يوم من صدورها، بدلاً من الطائرات القليلة التي تقلع باكرًا قبل صدور الصحيفة «الجزيرة»، فكم عانينا ما بين مشكلة وصول الصحيفة والتوزيع، كيف لا وليس هناك موزعٌ غيري، فكنت أنزل من مكتبي عصرًا في استقبال السَيَّارَة القادمة من الرياض لتناول تلك الأكياس المكتوب عليها مؤسسة الجزيرة الصحفية ومِنْ ثمَّ أقوم بتوزيعها بالحال على المكتبات وعند الغروب أذهب بها بسيارتي الخاصَّة للدوائر الحكوميَّة حيث كان هناك فترات مسائية أيّ خارج دوام طوال العام، وبهذا الشكل ضمنت وصول الصحيفة للمشتركين، وحتى ذوي الاشتراكات الخاصَّة تصلهم الصحيفة في منازلهم التي كنت أعرفها، والذين لا أعرف منازلهم طلبت حضورهم للمكتب لأخذ نصيبهم من عدد اليوم واستجابوا تقديرًا لظروفنا، وممَّن لم أتمكن من وصول الصحيفة لهم في نفس اليوم فتكون مقرونة بصحيفة اليوم التالي، وهي الحالة المشابهة مع بعض الدوائر التي لا يتوافر بها خارج دوام مسائي. ويسرُّني من منبر صحيفة «الجزيرة» أن أقدم شكري وامتناني لِكُلِّ من قدم خدمة للصحيفة «الجزيرة» وإن أتى ذلك متأخرًا فالمثل يقول: (إن تأتي متأخرًا خير مما تأتي) وأن أخص بالشكر الجزيل صاحب السمو الراحل فهد بن سعد أمير المنطقة آنذاك ومِنْ ثمَّ ابنه الراحل سعد بن فهد الذي خلفه بالإمارة، ومِنْ ثمَّ صاحب السمو الملكي النائب الثاني لمجلس الوزراء الأمير مقرن بن عبد العزيز أمير المنطقة، الذي أبدع في تطوير المنطقة. والثناء موصول لمديري الدوائر الحكوميَّة السابقين ومنهم: محمد الراجحي وعبدالرزاق الهذال الشؤون الزراعيَّة، وسليمان القريشي ومحمد سالم الراجح شركة الكهرباء، وإبراهيم البليهي رئيس البلدية آنذاك وهو الكاتب الأديب، والدكتور سامي أبوسنة وناصر العودة الشؤون الصحية، وعبد الرحمن الموسى إدارة الطرق ومحمد عبد الرزاق القشعمي وراشد الرميد مكتب رعاية الشباب، وفضيلة الشيخ ناصر الفريدي رئيس محاكم منطقة حائل، وعيد الحصيني مدير البرق والبريد والهاتف، والفريق الراحل علي المشعوف مدير شرطة حائل، والأخوان صالح ومحمد المحيسن أصحاب المكتبة الثقافيَّة وسليمان الميمان صاحب مكتبة الجيل وسالم الخبراء صاحب مكتبة.... رحم الله منهم الأحياء والأموات، فهؤلاء الرِّجال وقفوا وقفات مشرِّفة مع الصحيفة «الجزيرة» من حيث المادَّة الخبريَّة والإعلانية فكانوا كالنهر المتدفق حيويَّة ونشاطًا إن كانوا في أعمالهم التطويرية الخادمة للمنطقة أو على مستوى التعاون مع صحيفة «الجزيرة». وهنا يجب أن أتوَّقف بعدما سردت ما كان من قصة كانت هي مصدر اعتزازي بصحيفتي «الجزيرة» التي غطت أخبار المنطقة وقد شهدت نهضة عمرانية واقتصاديَّة وتعليميَّة، بل وحركة ثقافيَّة تعجّ بها المنتديات الثقافيَّة والإخبارية الإلكترونية.. هذه هي حائل المنطقة المتكئة على جبلي أجا وسلمى، وها هي الصحيفة «الجزيرة» ما زالت تقوم بواجبها، ولم تبخل بالثناء على من ساندوها إخباريًّا وإعلانيًّا في بواكير تأسيس مكتبها بمنطقة حائل، وما تخلله من جهود مضنية من قبل هؤلاء الرِّجال للوقوف مع مكتب الصحيفة «الجزيرة» لتأدية رسالته الإعلاميَّة في مطلع التسعينات الهجرية.. كما أنَّه لا يفوتني أن أنوّه بمن كان وراء نجاح مكتب الصحيفة وتذليل العقبات التي كنَّا نعاني منها في إدارة شؤون مكتب الصحيفة، إنّهما الأستاذان الفاضلان المُثقَّفان الشيخ صالح العلي العجروش مدير عام مؤسسة الجزيرة الصحفية -رحمه الله- ورئيس التحرير الأستاذ خالد بن حمد المالك، فالرِّجال مواقف ومعادن وقلوبهم خزائن مقفلة وعندما تحاول فضها حتمًا ستجد منها النفيس وقد وجدت فيما ذكرت هنا من النفيس الشيء الكثير. والله من وراء القصد. - محمد بن حمد البشيت