كل ما قلت ابصبر عن غرامك وأتوب جددت جرح قلبي لك هبوب الرياح أغاريد السعودية.. من أجمل وأعذب الشاعرات اللاتي أطللن على الساحة في حقبة الثمانينيات الميلادية المنصرمة؛ فقد خطفت ساحة الإعلام الشعري في ذلك الزمان - وإن لم تكن الوحيدة - فملأتها شعراً جميلاً يفيض بعذوبة التعبير عن مشاعر العشق والهوى, بأسلوبها الهادئ السهل الممتع الممتنع, المتفجر بآلام الصد, المكتظ بمعاني الوجد.. ولست أدري كيف تتراءى لي تجربة المرحوم عبدالله العليوي - معنى ولفظاً - عندما أقرأ شعر أغاريد السعودية, أظن أن الصدق في اللوعة, وعمق الإحساس وهدوء التعبير يجمع بينهما.. حضرت أغاريد السعودية فأسرت ألباب الشعراء وغواة الأدب، في وقت كانت فيه الصحافة المقروءة هي المنبر الأكثر حضوراً ومتابعة, والأكثر اهتماماً بهذا النوع من الأدب. وأغاريد السعودية من أولى النساء اللاتي اقتحمن دوحة كان الشعراء يظنون أنها خاصة بهم, محرمة على الجنس الآخر, وهذا الظن اليقيني طبعاً! يعود في تصوري إلى أسباب نفسية واجتماعية وفكرية أيضاً؛ فالمجتمع الذكوري لا يؤمن بالمساواة مع الأنثى، وخصوصاً في قضايا التفكير والتعبير, ويقف متوجساً مشككاً بحقيقة الشخصية أو الإنتاج لكل اسم نسائي ينزل في ساحة الإعلام الأدبية, وربما كان معه بعض الحق في هذا الشك؛ لأنه فرض حصاراً شاملاً على المرأة لم تكن تستطيع معه المضي بحرية في دروب الحياة العقلية التي تناسب ميولها, وتسير وفق طبيعتها وما خُلقت له, ومنها الثقافة والأدب, ولا إبداع بلا جمال، ولا جمال بلا حرية. كانت كل شاعرة تظهر على مسرح الإعلام تسبقها الشكوك في حقيقة شخصيتها أو حقيقة انتساب ما تكتبه لموهبتها, وكأن الشعر لا تفرزه إلا قرائح الذكور. ولعل لمن يحتقنّ بالشك بعض من العذر؛ فقد كانت المنابر - ولا تزال - تحتفي بالشاعرات أكثر من احتفائها بالشعراء, وهذا دفع بعض الحانقين على انحياز الإعلام إلى الكتابة بأسماء نسائية مستعارة لمخادعة الصحافة، وخلق إثارة تداعب المشاعر, وتروي الظمأ إلى ردود الأفعال على ما يكتب من الشعر, سواء أكانت ردوداً أدبية أو غير أدبية؛ ولذلك يرى البعض أن هذا التصرف أحد الأسباب التي تفسر اختفاء الشاعرات بسرعة بعد فترة من ارتياد المنابر الإعلامية؛ لأن اللعبة مهما طال أمدها لا بد أن تتوقف. وهذا وإن يكن فيه جانب من الحقيقة إلا أنه ليس كل الحقيقة, فليست كل الأسماء النسائية المستعارة في مجال الشعر النبطي مزيفة, وليس كل اختفاء وراءه خدعة. أما اختفاء كثير من الأسماء النسائية بعد فترة تطول أو تقصر فليس دليلاً على هذه التهمة؛ والاختفاء ليس خاصاً بالشاعرات بل يشمل الشعراء أيضاً, ومن ينظر بعين الإنصاف يدرك أن اختفاء الشعراء أكثر من اختفاء الشواعر. الظهور الإعلامي يترجم شهوة فطرية لدى كل من يتنفس الحياة ويشعر بجمالها, والشهوة لا تدوم. وبما أن المرأة في طبيعتها وظروفها الاجتماعية والفسيولوجية تختلف عن الرجل فإن هذا الاختلاف يجعلنا نعتقد أنه سبب من أسباب تغير اهتماماتها الفكرية والأدبية بصفة مستمرة أكثر من الرجل, ثم ربما منعتها ظروف الحياة المختلفة أيضاً من مواصلة الحضور. أغاريد السعودية - حسب يقيني - لا تنطبق عليها اتهامات التشكيك، التي تتشكل في ذهن الرجل عندما يقرأ قصيدة لشاعرة، بأنها كُتبت لها ولم تكتبها؛ فشعرها ثابت اللون والطعم والنكهة, وأسلوبها واحد، لا تنتابه اختلافات إلا اختلافات نمو الخبرة فقط, ولم تكن تحيد عن غايتها في التعبير، وهي بث أحاسيسها في الآفاق, وإطلاق صرخة الوجد في السماء, إما لتصل إلى قلب الحبيب أو لتخفف ضغط اللوعة واللهيب, أو لكليهما. ومعظم قصائدها تعبر عن وجد قلب عاشق, وروح منصهرة بنار هوى صادق, وإذا كانت المشاعر تُزيَّف في قصيدة فإنها لا تُزيَّف في ديوان كامل! ولا يستطيع رجل أن يتقمص شخصية امرأة ليكتب كل ما كتبته أغاريد في (صدى الذكرى)، وهو ديوانها الوحيد المطبوع. هذا ما أتصوره، وإن كنت أؤمن بأن من التمثيل ما يكاد يعانق الحقيقة! حضرت أغاريد السعودية في الإعلام في ذلك الزمان كغيمة ثرية بالقطر, فهلّت ماءها العذب البارد ثم مضت بعد أن تركت في نفوس محبي شعرها الجميل أثراً لا يُمحى. ظهرت فجأة ثم اختفت فجأة؛ لتزرع حقلاً فسيحاً من علامات الاستفهام والتعجب والأسف لدى متابعيها وعاشقي شِعرها الحلو اللذيذ. ويبدو - والله أعلم - أن تجربتها القلبية التي نشرتها في قصائدها انتهت ب(ألم), فختمتها ثم كفنتها ودفنتها، ورسمت على شاهدة القبر: باقي من الذكرى تواقيع وحروف وصفحة عذابٍ ما طوتها الليالي وحرفين مكتوبة بدم من الجوف ورسايل مطبوعة في خيالي فهي تجربة جعلتها (ذكرى)، نشرت صداها في ذلك الديوان الجميل. أما بيت السياحة أعلاه فإن يكن لا جديد معنى فيه فإن فيه شحنة هائلة من المشاعر المؤثرة, وإذا كان جمال الشعر يبدو في معانيه وألفاظه وأساليبه وصوره فإن قيمته الحقيقية إنما هي في أثره في النفس. سُئل أحد نقاد الشعر القدماء: «أي بيت تقوله العرب أشعر؟». قال: «البيت الذي لا يحجبه عن القلب شيء!». قلت: والشعر الذي لا يحجبه عن القلب شيء إنما هو الشعر المعبر عن شعور إنساني مشترك, الشعر الذي إذا سمعته أطربك, وجعلك تتخيل أنك قائله؛ لما تجد فيه من تصوير لواقعك, وتعبير عن أحاسيسك ومشاعرك. إنه بيت حلو بلا شك، يأسر كل من يقرؤه, وقد قرأه - مع قصيدته عند نشرها قبل ثلاثة عقود - الشاعر الكبير عبدالله بن نايف بن عون؛ فهزه وأطربه، وحرك شاعريته؛ فكتب معارضة للقصيدة ترجمت أثرها في نفسه, ولا يحرك أمثال ابن عون شديد الوقار إلا شعر مطرب. أين منابع الجمال في البيت؟ أفي لفظه السهل الممتنع؟ أم في معناه؟ أم في أسلوبه؟ أم في موسيقاه الهادئة؟ أم في روحه الحية التي نشعر بها ولا نراها؟ أظن أن كلمة (وأتوب) لها نصيب وافر من صناعة جمال البيت؛ فقد جعلت الغرام ذنباً وخطيئة يقترفها المحبون، مع أنهم لا يد لهم ولا حيلة في قبوله أو رفضه, والذنب لا يكون ذنباً إلا إذا اقتُرف باختيار, ولا خيار في الحب, والمحب مسيّر لا مخيّر. كل ما قلت ابصبر عن غرامك وأتوب جددت جرح قلبي لك هبوب الرياح إذا كانت هبوب الرياح تجدد الجرح فمن الأولى أن يعجل هذا بالتوبة وترك الهوى، لا أن يؤججه ويعيده عنيفاً من جديد, هكذا يقول المنطق, لكن متى كان للمنطق حضور في مسائل القلوب! البيت يقرر حقيقة مخالفة للفطرة الإنسانية ولفطرة كل مخلوق حي, فالفطرة تُحَرِّك - تلقائياً - غريزة الهروب عن مصدر الخطر, وهذا البيت يحرك غريزة الهروب أيضاً ولكن إلى قلب الخطر, فكلما زاد الخطر زاد التعلق به والاقتراب من مصدره! الحب نوع المازوخية، لكنها مازوخية طبيعية لا شاذة, فالعاشق يتلذذ بألمه من صدود الحبيب, ويسعد بتعذيبه, ويُسرُّ بمرضه منه, ولا يرضيه أن يُشفى من هواه: وقالوا لو تشاء سلوت عنها فقلت لهم.. فإني لا أشاء! (جددت جرح قلبي لك هبوب الرياح) لماذا هبوب الرياح بالذات؟ ألأنها تنقل أنفاس الحبيب ورائحته؟ أم لأنها تنقل أشواقه ومشاعره في رسائل لم يكتبها؟ (هبوب الرياح) رابعة الثلاث التي تذهب الغم والحزن, وأي شيء ينعش الروح كما تنعشه هبوب الرياح! كل ما قلت ابصبر عن غرامك وأتوب جددت جرح قلبي لك هبوب الرياح جت بطاريك عندي كم نسمة هبوب وأنعشت ذكرياتك ماضيات الجراح قفلة لأغاريد السعودية: الله حكم يازين بينك وبيني دعيت ربي واستجاب وسمعها من عشرتك جفت ينابع حنيني والنفس ما تقبل عشير خدعها [email protected]