كاللوحة الجميلة الخلاقة تتنامى بها الأفكار.. وينفسح بها الذهن.., وتندى بها الروح.. حين يمر بها متأمل.. فتسقي بألوانها..، ولمحات مضامينها..، وهيول أجنحتها الروحَ فيه.. وتلهمُ أفكاره..، وتشرع له فسحة ذهنه تأملاً..، وتوقد شعورَه حساً... كما تلك اللوحة الخلاقة.. هي تلك الكتابة الجميلة حين تقدم الفكرة مضمَّنة في لغة خلاقة.. ترتدي فيها الحروفُ أجمل تراكيبها، وأبعد دلالاتها، وأنقى صيغها نحْواً، وأعمق بلاغتها..، وآثر بيانها.. هذه الكتابة تأخذ القارئ خارج الفوضى البشرية، إلى جمال فوضى اللمحة، والفكرة، والحس.. تستدعيه للتطهر من عفن الأحقاد، والنزاعات، والخلافات، والغش، والخديعة, والظلم، والخيانة, والكذب، والغل، ..وكل فساد لحق بالبشرية فأظلمت به أركان في النفوس، وفي اللسان، وفي السلوك، وفي النتائج، وفي المعاملات، وفي نمط المعاش من حول الإنسان.. وهو في الراهن قرين فوضى، وهدر..، سلاح هذه الفوضى، وسائله التي ابتكر، وابتدع فلم تكن له للراحة, والفسحة، والسعادة، والاطمئنان، بل نقضت عليه عروش الطمأنينة، وعرائش السعادة.. وفتكت بلغة تعبيره..! هذه الفوضى، سلاحها الكلام، زادت عليه الغم، وكدرته بالهموم، وجعلته راكضاً في وحل. حاطباً في محل.. في غياب الكتابة الخلاقة القادرة على كل ذلك محواً، واستبدالاً.. بأفكارها ولغتها.. فالقلم رسالة إشراق فنور, وتطهير فطهر، وبناء فتماسك، وسلام فأمان.. فحياة للإنماء والأمل.. كما أنه نافذة طموح، وابتكار, وتجديد، وتحفيز، وهمة، ودافعية... بكل ما ينقله ويوصله بين الناس.. الكتابة الخلاقة وحدها منجاته، حين تنضوي على أفكار راقية لطموحاته، في حياة تبتكر له فيها جمالها, وترتب له فيها مسارب فكره، وتنقي فيه مسامات شعوره، وتطهر فيه جداول فكره، وتهيل عليه ماءها العذب, ونسائمها الناعمة.. القارئ نهمٌ عطِشٌ لهذه الكتابة.. سواء ذلك القارئ الذي ربيت ذائقته على الجمال.. أو هذا القارئ الناشئ الذي نمت به قدما فكره، وذائقته على الكتابة «الصفيحية»، التي تجعجع ولا تبلغ,... هذا القارئ إنه حين يجد الكتابة الجميلة الخلاقة، سوف يميل نحو هبوب نسائمها، ويرنو لفناراتها.. لكن الآن، الكتابة انتهكت سياجاتها وغدت كمضمار سبْق، فيه تركض كل ذوات القدمين، وليست الجياد الأصيلة فقط.. زاد العطش للكلمة الجميلة وإن جاءت في لغة الطيور, والفكرة الأصيلة وإن تضمنتها بعض السطور,...! زاد العطش للجمال وإن مر بالكتابة في عبور..! والحقيقة أن العطش استمرأ بالقارئين..، وناء بسطوته قحطاً بذائقة المتلقين..! فيما القادرون على الوفاء للكتابة المبدعة الخلاقة يتراجعون عن سيل، وطمي عارم.. وإن كانت القلة منهم يبحرون، ولكن في عناءٍ، غرباء.. غرباء....!! إذ سطت الهشاشة بأبنية الكتابة في الراهن المعاش بشكل غالب.. لكنه التوقيت الفارض لأن يُشمر عن الهمم، ليعود، وليكون لمجرى الكتابة رونقها، وجمالها.. حين ينهض لها النقاد الخلَّص لوجه الإبداع, ويحرص عليها كل ذي قلم.., ويصفِّي المتلقي جوانبه من الانبهار بجعجعة الصفيح..! إنه زمن الحلم، وأدري أنه الحلم الفاعل، ولن تتحقق طهارة الذائقة، ولن تعلو همم الأفكار, ولن تجمل الحياة إلا بكتابة دافعة مؤثرة قادرة على الرقي بالقارئ لترقى حياته من ثم... فلا تهمش الكتابة المتفانية للجمال وللسمو.. في ضوء فوضى الكتابة المتسطحة تلك التي تعرج فتسند إلى الصراخ..، وتنجح في استقطاب الساندين.. القارئ أمانة الكاتب.. عطشه، ورواؤه.. النبع ثرٌ.. غير أنه مهجور.. ولا دواء للعطش إلا بمد روافده، وإعمال جداوله.. والاتجاه لمورده... وعكس اتجاه البوصلة ليكون هو المتَّجَه إليه..!! عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855