للحرم المكيّ مكانة كبيرة في نفوس المسلمين واهتمام زائد، ورعاية كبيرة لدى آل سعود,, منذ دخل الامام سعود بن عبدالعزيز (1163 1229ه) رحمه الله مكة في عهد أبيه عبدالعزيز (1133 1218ه)، عام 1215ه، حيث عمل اصلاحات في الحرم، وتنظيمات منها: ما يتعلق بالأموال في الحجرة النبوية بالمدينة، التي استغلّها الأعداء، فقد قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في توضيحه لما اعتبره الخصوم مثلبة عليه ببيعها: أما التجاسر على حجرة رسول الله يشير إلى المال الذي استخرجه من الحجرة، وصرفه على فقراء أهل المدينة، ومصالح الحرم فإنه رحمه الله، لم يفعل هذا الاّ بعد أن افتاه أهل المدينة، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، فاتّفقت فتاواهم على انه يتعيّن ويجب على وليّ الأمر اخراج المال الذي في الحجرة، وصرفه في حاجة أهل المدينة، وجيران الحرم، خاصة وأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدّت الحاجة والضرورة إلى استخراج المال وإنفاقه وهو مستحق للفقراء، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كنز الذهب والفضة، وأمر بالإنفاق في سبيل الله (تاريخ الدولة السعودية للعجلاني 3: 49). كما دافع كل من المؤرخ المصري الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار، وبركهارت الأوروبي، وابن بشر كان شاهد عيان، فقد حج في عام 1225ه، ورأى الإمام سعوداً وهو راكب مطيّة محرماً والناس مجتمعون في نمرة، فخطب الناس وهو على مطيّته وحثّ الناس على التوحيد، وذكرهم ما أنعم به سبحانه عليهم من النعم الكثيرة، ونادى وهو على ظهرها: لا يحمل في مكة سلاح، ولا تتبرج امرأة بزينة، ثم ذكر اصلاحات قام بها في المسجد الحرام، واكثر الصدقات والعطاءات لأهل مكة وأمر بالرأفة بهم. أما الملك عبدالعزيز رحمه الله (1292 1373ه) فإنه منذ دخل مكة محرماً في عام 1343ه قد وضع نصب عينيه خدمة بيت الله الحرام، حيث لم يدخل عليه أي تعديل أو اصلاح، منذ شيّده سليم العثماني الذي بدأ العمل فيه عام 980ه، حيث أتمّه بعد وفاته ابنه السلطان مراد عام 984ه، ولم يطرأ عليه اي شيء سوى الترميمات الصغيرة، التي جرت في أوقات مختلفة وكانت مساحته 29100م 2 . كما اهتم أولاً وقبل كل شيء بتوفير الامن وتيسير السبل وحمايتها من أجل سلامة حجاج بيت الله الحرام، بل بثّ في الآفاق رغم ان حصار جدة قائم، ما يطمئن الوافدين لبيت الله الحرام، وأن ميناءي الليث في الجنوب، ورابغ في الشمال مهيآن لاستقبال الحجاج، مع جميع متطلباتهم، من خيام ومراكب، وماء وطعام وحراسة، منذ وصولهم حتى عودتهم لبلادهم,, فتحقق لهم وتحدثوا بعد ما عادوا لبلادهم سالمين، بأن الحرمين حظيا من الملك عبدالعزيز بعناية عظيمة، وأحاط الحجاج برعاية، لم تعرف منذ عشرات السنين. وقد كبرت مكانته رحمه الله في قلوب المسلمين الذين استبشروا بقدومه، وهيمنته على شئون الحرمين الشريفين، حيث تهفو قلوب المسلمين وتشرئب أعناقهم، وأمّلوا فيه خيراً، ومصلحة للاسلام والمسلمين، لما رأوا منه من لهجة صادقة، وإتباع للقول بالعمل، ورأفة ومحبة للإسلام وأهله وكراهية للباطل وأتباعه. وقد كانت موارد البلاد ذلك الوقت ضعيفة جداً، الا ان الملك عبدالعزيز كان صادقاً مع الله، فجعل الله له من الضيق مخرجاً ومن الهمّ فرجاً,. 1 وبدأ اهتمامه بالمسجد الحرام: بالترميم والإصلاح لما كان متضرراً مع طول الزمن في بناء المسجد الحرام، إذ اصدر في عام 1344ه أمره الكريم بعمارة المسجد الحرام، فقام مدير الأوقاف في ذلك الوقت الشيخ محمد أبوالخير بترخيم المسجد الحرام، واصلاح كل ما يلزم إصلاحه، فرمّم التلف في جدران المسجد وأرضه وأعمدته، وأصلح المماشي وحاشية المطاف، والأبواب وطلى مقام ابراهيم، وأساطين النّحاس الواقعة حول المطاف. 2 وفي مطلع عام 1346ه صدر أمره بترميم المسجد الحرام من الداخل والخارج على حسابه الخاص، وعهد بذلك الى الشيخ عبدالله الدهلوي الذي عمل عدة سنين في عمارة عين زبيدة، وظهر من حسن عمله ما جعل الملك عبدالعزيز يكلفه بهذه المهمة. فبدأ العمل ورمم كامل أروقة المسجد الحرام، من جهاته الأربع مع زيادتي: دار الندوة، وباب ابراهيم وعموم المماشي، وقام بتنظيف الحرم من الداخل والخارج، وجدد طلاء العقود والجدران والأعمدة، حتى صارت بيضاء ناصعة، ولم يترك شيئاً ما جدّده واعاد نضارته، حتى عادت للمسجد الحرام بهجته وجماله، واستغرق العمل سنة كاملة، وقد صُرف على ذلك العمل من تبرع الملك عبدالعزيز ما يربو على ألفي جنيه ذهباً, (يراجع في هذا تاريخ عمارة المسجد الحرام لحسين عبدالله باسلامة 282 284). 3 وفي عام 1345ه قدم المجلس البلدي في مكة ضمن ميزانيته السنوية لنائب الملك مشروع رصف طريق المسعى بالحجارة لما يعانيه الحجاج من غبار شديد نتيجة السّعي، فأصدر أمراً نشرته جريدة أم القرى في 18 جمادى الثانية 1345ه وقد أقيم احتفال كبير عند الصفا لوضع حجرالاساس صباح يوم السبت 20 جمادى الثانية 1345ه حضره سمو نائب جلالته، الأمير فيصل رحمه الله، وقد نقش على الحجر: أمر بترصيف المسعى جلالة ملك الحجاز ونجد، ونرجو أن يكون هذا فاتحة خير في سبيل خدمة البلاد ونهوضها ,, وانتهى العمل في أواخر القعدة عام 1345ه، وبذلك أصبح طريق المسعى، ممهداً للساعين حجاجاً وعمّاراً، خالياً من الأتربة والغبار، وهي أول مرة يسّجلها التاريخ للملك عبدالعزيز في رصف المسعى منذ فرض الله الحج على المسلمين. 4 من عام 1345ه ازداد الحجاج زيادة ظاهرة حيث تجاوز أربعمائة ألف حاج، ولعل سبب ذلك ما انتشر في أرجاء العالم الإسلامي عن جهود الملك عبدالعزيز في توفير الأمن وحماية الحجاج عما يضرّهم، منذ تطأ أقدامهم، مداخل البلاد حتى عودتهم لديارهم سالمين فائزين بأداء المناسك، فقد غصّ الحرم لأول مرّة بالمصلّين، فأمر الملك عبدالعزيز بوضع سرادقات في رحَبَاتِ المسجد الحرام، حتى يستظل تحتها المصلّون، ويتّقون بها وهج الشمس وحرارة الصيف ولهيبه، وكان هذا أول مشروع يقام في صحن المسجد الحرام، ليمدّ في صلاتي الظهر والعصر، ويرفع في بقية الأوقات. 5 ولما ظهرت منافع وفائدة هذه المظلاّت التي وقى الله بها الحجاج حرارة الشمس ولفح الظهيرة، فقد أمر الملك عبدالعزيز رحمه الله في عام 1346ه إلى وزير المالية بعمل مظلاّت ثابتة قويّة على حدود أروقة المسجد من الجهات الأربع ليستظل بها الحجاج والمعتمرون، وأكّد على ان تكون في غاية المتانة، حتى لا تهزّها الرياح مثلما فعلت بالسرادقات السابقة,, وقد توسع عبدالله باسلامة في وصفها ونوعها ومتانة قماشها، وكانت ترفع بعد الحج لعدم الحاجة إليها، وقد كلفت مبالغ كبيرة، لكنه رحمه الله استهان ذلك في سبيل خدمة حجاج بيت الله الحرام (راجع في هذا تاريخ عمارة المسجد الحرام حسين عبدالله باسلامة 289 290)، ثم بعد ذلك عملت مظلات ثابتة عند أطراف المسجد الحرام تفتح وتغلق حسب الحاجة، حسبما جاء خبر ذلك في أم القرى العدد 1314 تاريخ 16/8/1369ه. 6 وفي شهر شعبان من عام 1354ه أصدر الملك عبدالعزيز رحمه الله أمره إلى سمو نائبه في الحجاز الأمير فيصل رحمه الله بعمل ما يلزم للمسجد الحرام، من ترميم وإصلاح وتجديد، فأمر سموه بتشكيل لجنة لهذا الغرض، من عدة جهات وجاء في قرارها: أ إصلاح الأرضية الواقعة حول المطاف، وذلك بإزالة الأحجار غيرت الصالحة، ورصفها من جديد رصفاً متقناً. ب إصلاح أرضية الأروقة في المسجد الحرام، وغيرت بإزالة الأحجار الضارة، ووضع بديلاً سليماً، وإزالة المؤنة التالفة وهي الجصّ وتعبئة الفراغات بين الحجارة المرصوفة بالنورة. ج اصلاح جميع الشقوق في جدران المسجد الحرام، وتجصيصها بالإسمنت والنورة، لتمنع تسرب الرطوبة للجدران، مع الاهتمام بإصلاح العقد الموالي لباب الصفا إصلاحاً تاماً. د طلاء المسجد الحرام كله من الداخل، ومبنى زمزم، وترميم الشقوق في بعض قباب المسجد الحرام. ه تجديد الألوان بداخل أروقة المسجد، وصبغ الأعمدة بالألوان: أحمر واسود، ورمادي وأصفر، وتجديد ألوان أساطين النحاس الواقعة حول مدار المطاف، ودهنها بالأخضر إلا رأسها ووسطها، فباللون الذهبّي، وتجديد طلاء المقامات الأربعة، ليكون على ما كان عليه سابقاً. و نقش باب بني شيبة بالألوان المناسبة شكلاً ولوناً، وصبغ واجهات أبواب المسجد وباب بئر زمزم. ز إزالة ما بأبواب المسجد من عطب وتلف، وإصلاحها بالخشب الجاوي القويّ. ح إزالة الأتربة الواقعة في صحن المسجد الحرام، وتخفيض مستواه، وفرشه بالحصباء النقيّة بقدر ربع ذراع. ولقد قدّرت اللجنة المذكورة تكلفة العمل في هذه الإصلاحات بمبلغ قدره: اثنا عشر ألف ريال، واربعمائة وثلاثة وثمانون ريالاً عربياً سعودياً (12483) ريالاً. وفد رفع سمو الامير فيصل رحمه الله قرار اللجنة بما يُرى اصلاحه، وما قُدّر من تكلفة، إلى جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله ولم يسعه لحرصه واهتمامه، الاّ أن أمر بعد الاطلاع بالموافقة على ذلك، كله، وأمر بصرف نصف المبلغ المقدّر للإصلاح من ماله الخاص، والنصف الآخر قامت بصرفه المديرية العامة للأوقاف من صندوقها، وبدىء العمل في تنفيذ كل ذلك في يوم 19 رمضان عام 1345ه، وقد ذكر الشيخ: حسين عبدالله باسلامة في كتابه: تاريخ عمارة المسجد الحرام توضيحاً عن هذا العمل، وأنه قد تمّ ما تقرر عمله على خير ما يرام (285 286). 7 ولما كان الملك عبدالعزيز رحمه الله قد اهتم منذ بدء الاصلاحات والتجديدات في المسجد الحرام، فإنه قد اهتمّ بإضاءته وتجديد وتكثير المصابيح، وهذا الامر استلزم إنشاء اعمدة رخامية جديدة، من المرمر الصّقيل لتعلّق عليها مصابيح الإضاءة الكبيرة في جميع ردهات المسجد الحرام,, ثم أضاءه بالكهرباء لأول مرة، قبل ان تدخل الكهرباء لبيوت أهل مكة وغيرهم من سكان المملكة بزمن. 8 أما المسعى الذي اهتمّ به الملك عبدالعزيز واصلاح ما يحتاجه فإنه قد أمر بتجميل جوانب المسعى، حيث كان شارع المسعى محاطاً بالدكاكين غير المنتظمة، وصدر أمره أيضاً بطلاء واجهات الدكاكين وتبليطها وتجصيصها حتى يحسن منظرها، وقد أخبرني سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله بأنه في عام 1349ه عندما حجّ وكان مبصراً لم يذهب بصره بعد، بأنه لقلّة الناس، فإن المسعى كان مأوى للكلاب، وكان المتجوّلون للشراء والبيع يضايقون الساعين. 9 ومن هنا أدرك الملك عبدالعزيز رحمه الله بعد تجميل المسعى أهمية إزالة ما يضايق الساعين، وقد أمر بإزالة المقاهي المنتشرة عند أبواب المسجد الحرام، لأن بقاءها لا يتفق مع مكانة المسجد الحرام، كما أنها تعرقل مرور المصلّين، وتتسبب في تعثّرهم في السير، عدا ما ينتج من ضوضاء، لمرتادي هذه المقاهي، وقد تحدثت عن ذلك جريدة أم القرى في عددها 740 الصادر يوم الجمعة 28 من ذي الحجة عام 1357ه. 10 أما سقف المسعى فقد كان عمل له مظلّة صغيرة في محاولة لوقاية الساعين من حرارة الشمس، ولكنها لا تفي بالحاجة، ولذا امر الملك عبدالعزيز في عام 1366ه بتجديد سقف المسعى بطريقة فنيّة محكمة، وكانت مظلة السقف ممتدة، من الصفا الى المروة، ما عدا ثمانية امتار مقابل باب علي رضي الله عنه، فإنها لم تسقّف، لأن تركها بغير سقف أجمل وأحسن، ويبلغ عرض السقف كله، عشرين متراً ونصف المتر، وقد تمّ هذا العمل في السنة المذكورة. وقد كتب على هذه المظلّة لوحة طولها اربعة أمتار، وبعرض متر واحد وأربعين سنتيمتراً في اربعة اسطر هذه العبارة: أنشئت هذه المظلة في عهد حضرة صاحب الجلالة محيي مجد العرب والمسلمين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية وقد تم إنشاؤها في سنة ألف وثلاثمائة وستة وستين من الهجرة أثابه الله وأدام توفيقه. 11 كما أمر الملك عبدالعزيز رحمه الله بتشكيل هيئة لتعمير المسجد الحرام، وكان من أعمالها: أن أعلنت الى عموم سكان الدّور المطلّة على المسجد الحرام، بطلاء الدّور طلاءً كاملاً بما يليق بمكانة المسجد وجماله، وقدسيّته في قلوب المسلمين، وان ما تقتضيه المصلحة، قيام عموم سكان الدور المذكورة، والسماح للقائمين بعملية طلاء المسجد الحرام، بالصعود الى دورهم للقيام بعملية الطلاء للدور المطلة على المسجد الحرام، ورحباته، حيث نوّهت عن هذا جريدة أم القرى في عددها 1363 الصادر في يوم 11 شعبان عام 1370ه. 12 كما أمر الملك عبدالعزيز رحمه الله نظراً لما تقتضيه المصلحة وبناءً على اقتراحات اللجان المشكلة لذلك بإزالة ما لا مصلحة لوجوده، أو تعديل ما يحتاج الى تعديل مثل: البناء المقام على زمزم، الأعمدة الخرسانية المسلّحة في المطاف، مقام ابراهيم، مباني المقامات الاربعة، المكبريَّة المقامة فوق بئر زمزم,, وغير ذلك. وبعدما أفاء الله على البلاد بموارد ثابتة خرجت من كنوز الأرض، أحبّ الملك تحقيق أمنية في نفسه، خاصة وأن عدد الحجاج والمعتمرين في تزايد مستمر، بإعمار المسجدين: المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اصدر أمره بذلك قبل وفاته، وتمت التوسعة التاريخية لهما، التي سيتحدث بها التاريخ، وقام بها بنوه من بعده، وسيكون لهذا اكثر من حديث ان شاء الله. فوائد العصا: جاء عند ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار : أن الشريمّي القطاميّ قال: خرجت من الموصل أريد الرّقة فصحبني فتىً من أهل الجزيرة وذكر انه من ولد عمرو بن كلثوم، ومعه مِزوَدٌ وركوة وعصا، ورأيته لا يفارقها مشاةً كنا أو ركباناً وهو يقول: إن الله جعل جماع أمر موسى وأعاجيبه، وبراهينه ومآربه في عصاه، ويكثر من هذا، وأنا أضحك متهاوناً بما يقول في أمر عصاه، فتخلّف المكاري، فكان حمار الفتى اذا وقف أكرهه بالعصا، ويقف حماري ولا شيء في يدي، فيسبقني إلى المنزل، فيستريح ويريح، ولا أقدر على البراح حتى يوافيني المكاري، فقلت: هذه واحدة، ثم خرجنا من غدٍ مشاة فكان إذا أعيا توكأ على العصا، وربما احضر ووضع طرفاً علىالأرض، فاعتمد عليها ومرّ كأنه سهم زالج حتى انتهينا، وقد تفسّختُ من الكلال، وإذا فيه فضل كثير، فقلت: وهذه أخرى، فلما كان في اليوم الثالث هجمنا على حيّة منكرة، فسارت إلينا، فأسلمته إليها، وهربت عنها، فضربها بالعصا حتى قتلها فقلت: هذه ثالثة، وهي أعظمهن، وخرجنا في اليوم الرابع وبنا قرم الى اللحم، فاعترضتنا أرنب، فحذفها بالعصا، وأدركنا ذكاتها فقلت: هذه رابعة، فأقبلت عليه فقلت: لو أن عندنا ناراً ما أخرت أكلها الى المنزل، فأخرج عويداً من مزوده، ثم حكّه بالعصا فأورت إيراء المرَخُ والعفار، ثم جمع ما قدر عليه من الغثاء والحشيش، وأوقد ناراً وألقى الأرنب في جوفها فأخرجناها وقد لزق بها من الرماد والتراب ما بغّضها إليّ، فعلّقها بيده اليسرى ثم ضرب جنوبها بالعصا، وأعراضها ضرباً رقيقاً حتى انتثر كل شيء عليها، فأكلناها وسكن الغرم، وطابت النفس، فقلت: هذه خامسة، ثم نزلنا بعض الخانات، وإذا البيوت ملآنة روثاً وتراباً، فلم نجد موضعاً نظلّ فيه فنظر الى حديدة مطروحة في الدار، فأخذها فجعل العصا نصابا لها، ثم قام بالجرف لجميع ذلك الروث، والتراب وجرّد الارض، حتى اظهر بياضها وطابت ريحها، فقلت: وهذه سادسة، ثم نزع العصا من الحديدة، فأوتدها في الحائط، وعلّق عليها ثيابه وثيابي، فقلت: هذه سابعة، فلما صرنا إلى مفترق الطريق وأردت مفارقته قال لي: لو عدلت معي فبتّ عندي, فعدلت معه فأدخلني منزلاً يتصل ببيعه، فما زال يحدثني، ويُطرفُني الليل كله، فلما كان السحر، أخذ العصا بعينها، وأخذ خشبة أخرى فقرع بها العصا فإذا ناقوس ليس في الدنيا مثله، وإذا هو أحذق الناس به: فقلت له: ويحك أما أنت بمسلم؟ قال: بلى, قلت: فلمَ تضرب بالناقوس؟ قال: لأن أبي نصراني وهو شيخ كبير ضعيف، فإذا شهدت بررته بالكفاية وإذا هو شيطان مارد وأظرف الناس، واكثرهم أدباً، فخبّرته بالذي أحصيته من خصال العصا: فقال: والله لو حدثتك عن مناقب العصا ليلة الى الصبح ما استنفدتها (2: 139 140).