تحدثت في الحلقة السابقة عن دعوة الشيخ رحمه الله وجهوده في توضيح قضايا الدعوة وإبرازها من بيان أهمية الدعوة وتوضيح أساليبها وبيان طرق التغلب على عوائقها وحديثي في هذه الحلقة عن منهجه رحمه الله في التربية والتعليم إذ يعتبر رحمه الله مدرسة في التعليم والتربية فذة فمع حرصه على تلاميذه الملازمين له كان شديد الاهتمام بتعليم عامة شباب الأمة وتربيتهم لأنهم جيل المستقبل وأمل الأمة قال رحمه الله موجهاً كلامه لعامة الأمة والمسؤولين عن تربية الشباب على وجه الخصوص: ومن أعظم أصول الجهاد والتربية الاعتناء والاهتمام التام بشبان الأمة فإنهم محل رجائها وموضع أملها ومادة قوتها وعزتها وبصلاح تربيتهم تصلح الأحوال كلها فعليهم أن يعتنوا بتربيتهم التربية العالية وأن يبثوا فيهم روح الدين وأخلاقه الجميلة والحزم والعزم وجميع مبادئ الرجولة وتدريبهم على المصاعب والمشاق والصبر على الأمور النافعة والثبات عليها ويحذروهم من الجبن والخور والسير وراء المادة والطمع والانطلاق في المجون والهزل والدعة فإن ذلك مدعاة للتأخر العظيم وشباب الحاضر هم رجال المستقبل (1) . وقد اهتم رحمه الله بإصلاح التعليم لأنه أساس بناء الفرد المسلم فبين طرق ووسائل إصلاح التعليم حيث قال: إن من أعظم أركان التربية العامة النافعة إصلاح التعليم والاعتناء بالمدارس العلمية وأن يختار لها من المعلمين والأساتذة الصالحين الذين يتعلم التلاميذ من أخلاقهم الفاضلة قبل ما يتلقون من معلوماتهم العالية ويختار لها من فنون العلم الأهم فالأهم من العلوم النافعة الدينية والدنيوية المؤيدة للدين وأن تكون العلوم الدينية هي الأصل والأساس الأقوم ويكون غيرها تبعاً لها ووسيلة إليها وأن يكون الغرض الوحيد من المتخرجين من المدارس الناجحين في علومها أن يكونوا صالحين في أنفسهم وأخلاقهم وآدابهم مصلحين لغيرهم راشدين مرشدين مهتمين بتربية الأمة فإن كثيراً من المدارس الآن التعليم فيها قاصر جداً لا يعتنى فيه بأخلاق التلاميذ ويكون تعليم الدين فيه ضعيفاً ويكون الغرض منه المادة وأن يخرج منها تلاميذ يصلحون للوظائف الدنيوية المادية البحتة وهذا ضرره كبير وسبب للضعف والانحلال ولا ريب أن السعي في إصلاح التعليم من أهم المهمات (2) . آداب المعلم والمتعلم: وجه رحمه الله المعلم والمتعلم بعدة توجيهات تدل استيعابه رحمه الله للعملية التعليمية الناجحة وسعيه لتطبيقها وتوجيه الناس إليها فمن توجيهاته لهم جميعاً ما يلي: * تذكيرهم بالإخلاص لأنه الأساس الذي تقوم عليه الأعمال حيث قال: يتعين على أهل العلم من المتعلمين والمعلمين أن يجعلوا أساس أمرهم الذي يبنون عليه حركاتهم وسكناتهم الإخلاص الكامل والتقرب إلى الله بهذه العبادة التي هي من أجل العبادات وأكملها وأنفعها وأعمها نفعاً ويتفقدوا هذا الأصل النافع في كل دقيق من أمورهم وجليل فإن درسوا أودرَّسوا أو بحثوا أو ناظروا أو سمعوا أو استمعوا أو كتبوا أو حفظوا أو كرروا دروسهم الخاصة أو راجعوا عليها وعلى غيرها الكتب الأخرى أو جلسوا مجلس علم أو نقلوا أقدامهم لمجالس العلم أو اشتروا كتباً أو ما يعين على العلم كان الإخلاص لله واحتساب أجره وثوابه ملازماً لهم (3) . * النصح ونشر العلم حيث قال رحمه الله: من آداب العالم والمتعلم النصح وبث العلوم النافعة بحسب الإمكان ولأن ثمرات العلم أن يأخذه الناس عنك فمن شح بعلمه مات علمه بموته وربما نسي وهو حي كما أن من بث علمه كان حياة ثانية وحفظاً لما علمه وجازاه الله من جنس عمله (4) . ومن توجيهاته للمعلم خاصة مايلي: * النصح للمتعلم والصبر عليه حيث قال: على المعلم النصح للمتعلم بكل ما يقدر عليه من التعليم والصبر على عدم إدراكه وعلى عدم أدبه وجفائه مع شدة حرصه وملاحظته لكل ما يقومه ويهذبه ويحسن أدبه (5) . * التوقف عند عدم العلم وقد بين رحمه الله المصالح المترتبة على ذلك فقال: ومن أعظم ما يجب على المعلمين أن يقولوا لما لا يعلمونه: الله أعلم وليس هذا بناقص لأقدارهم بل هذا مما يزيد قدرتهم ويستدل به على كمال دينهم وتحريهم للصواب وفي توقفه عما لا يعلم فوائد كثيرة: منها/ أن هذا هو الواجب عليه ومنها: أنه إذا توقف وقال: الله أعلم فما أسرع ما يأتيه علم ذلك من مراجعته أو مراجعة غيره فإن المتعلم إذا رأى معلمه قد توقف جد واجتهد في تحصيل علمها وإتحاف المعلم بها فما أحسن هذا الأثر. ومنها: أنه إذا توقف فيما لا يعرف كان دليلاً على ثقته وأمانته وإتقانه فيما يجزم به من المسائل كما أن من عرف منه الإقدام على الكلام فيما لا يعلم كان داعياً للريب في كل ما يتكلم به حتى في الأمور الواضحة ومنها: أن المعلم إذا رأى منه المتعلمون التوقف فيما لا يعلم كان ذلك تعليماً لهم وإرشاداً لهذه الطريقة الحسنة والاقتداء بالأحوال والأعمال أبلغ من الإقتداء بالأقوال (6) . * إتباع العلم العمل ولاشك أن هذا هو ثمرة العلم وقد قال رحمه الله في هذا: ومن أعظم ما يتعين على أهل العلم الاتصاف بما يدعو إليه العلم من الأخلاق والأعمال والتعليم فهو أحق الناس بالاتصاف بالأخلاق الجميلة والتخلي عن كل خلق رذيل وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم ولأنهم قدوة للناس والناس مجبولون على الاقتداء بعلمائهم (7) . وقد خص رحمه الله المتعلم ببعض الآداب فمنها: * القناعة في المعيشة حيث قال: اعلم أن القناعة باليسير والاقتصاد في أمر المعيشة مطلوب من كل أحد لا سيما المشتغلون بالعمل فإنه كالمتعين عليهم لأن العلم وظيفة العمر كله أو معظمه فمتى زاحمته الأشغال الدنيوية والضروريات حصل النقص بحسب ذلك والاقتصاد والقناعة من أكبر العوامل لحصر الأشغال الدنيوية وإقبال المتعلم على ماهو بصدده (8) . * الحرص على الفائدة قال رحمه الله: ينبغي أن يكون اجتماعهم أي التلاميذ في كل وقت غنيمة يتعلم فيها القاصر ممن هو أعلى منه وليجعلوا همهم معقوداً عما هم بصدده وليحذروا من الاشتغال بالناس فإن في ذلك إثماً حاضراً والمعصية من اهل العلم أعظم منها من غيرهم ولأن غيرهم يقتدي بهم ولأن اشتغالهم بالناس يضيع المصالح النافعة والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره (9) . وله رحمه الله أبيات جميلة في الحث على العلم ومنها قوله: انهض إلى العلم في جد بلا كسل نهوض عبد إلى الخيرات يبتدر واصبر على نيله صبر المجد له فليس يدركه من ليس يصطبر يكفيك بالعلم فضلاً أن صاحبه بالعز نال العلا والخير ينتظر يكفيك بالجهل قبحاً أن فاعله ينفيه عن نفسه والعلم يبتكر منهجه في تربية تلاميذه وعامة الناس: وقبل أن أتحدث عن تربيته لتلاميذه وعامة الناس ومنهجه في ذلك أذكر كلاماً نفيساً له رحمه الله في تربية النفس وهو قوله: وألطف من ذلك أن تسلك الحكمة مع نفسك وتراقبها في أعمالها وتجتهد في تنمية وازع الرغبة فيها إلى الخير وإضعاف الدواعي إلى الشر وتلاطفها ملاطفة الطفل في تحصيل الأمور المطلوبة منها وفي تنمية أخلاقها وتعطيها من الراحات والطيبات ما يسهل عليها معه القيام بالطاعات وتغتنم أوقات نشاطها وتريحها في فترات الكسل وإياك أن تجمح بك في الانهماك في اللذات التي تشغلك عن الأمور النافعة ولكن جاهدها وحاسبها واعرض عليها الموازنة بين الإخلاد إلى الكسل وبين المطالب العالية التي تفوت بالكسل ولا تدرك إلا بالعمل: يانفس ماهي إلا صبر أيام كأن مدتها أضغاث أحلام يانفس جوزي عن الدنيا مبادرة وخل عنها فإن العيش قدام فلا يزال الحكيم مع نفسه في ملاطفة وتدريب وترغيب وترهيب وإنذار وتبشير حتى يلين صعبها ويستقيم سيرها وتتبدل صفاتها الرديئة بالصفات الطيبة (10) . وقد ذكر رحمه الله نماذج من تربية النفس على العلوم النافعة والأخلاق الفاضلة لايسع المجال لعرضها. تعليمه لتلاميذه وتربيتهم: كانت طريقته في تعليم تلاميذه وتربيتهم طريقة تربوية ناجحة كانت سبباً في التفاف الأعداد الكبيرة من التلاميذ عليه وكثرة استفادتهم منه وكان منهجه مع طلابه يدل على اهتمامه بهم وحرصه عليهم , ومما يدل على هذا طريقته في التعامل معهم ومنها: * تسهيل أمورهم والحرص عليهم ليتفرغوا للعلم لأنه من المعلوم أن المنشغل عن العلم لا يمكن أن يستفيد الاستفادة الكاملة قال تلميذه الشيخ محمد القاضي: كان يدفع للفقراء من الطلبة الأموال ليتجردوا عن الانشغال في وسائل المعيشة (11) . * ومن حرصه على تلاميذه خصوصاً المحصلين منهم أنه كتب لوالد الشيخ محمد العثيمين عندما انتقل إلى الرياض ورغب أن ينتقل ابنه محمد معه فقال له الشيخ في كتابته: إن هذا لا يمكن نريد محمدا أن يمكث هنا حتى يستفيد (12) . وقد كان رحمه الله يتشاور مع طلابه فيما يدرسون من الكتب وهذه المشاركة تكون دافعاً لهم على الاهتمام بالعلم والاطلاع على كتبه ليتمكنوا من الاختيار عن علم ومعرفة قال صاحب سيرة العلامة السعدي: كان يتشاور معهم أي تلاميذه في اختيار الأنفع من كتب الدراسة ويرجح ما تختاره الأكثرية منهم أما إذا تساووا فيكون هو الحكم (13) . طريقته في التدريس: لقد جمع الشيخ رحمه الله في تدريسه بين الطرق القديمة التي تتميز بالجد والقوة والحزم وبين الطرق الحديثة التي تتميز بالتقريب والتوضيح والتسهيل ومن هذه الطرق التي سلكها ما يلي: 1 التدرج في التعليم: والبداية بالأهم فالأهم وعدم مراكمة العلوم بعضها على بعض قال رحمه الله موضحاً هذه الطريقة ومبيناً نفعها: ومن الحكمة ألا يلقى على المتعلم العلوم المتنوعة التي لا يحتملها ذهنه أو يضيع بعضها بعضاً واتفق أهل المعرفة بطرق التعليم أن هذا ضار ومفوت للعلم وأن الطريق الأقرب أن يجعل للمتعلم من الدروس ما يسهل عليه حفظها وفهمها (14) . وكان رحمه الله مطبقاً لهذه الطريقة مع تلاميذه مراعياً للفروق الفردية والاستعدادات الطبيعية بينهم ومما يدل على هذا أنه جعل لبعض الطلاب المتفوقين جلسة خاصة. 2 الحرص على حفظ المتون: وقد قال رحمه الله في بيانه لأثر الحفظ وفائدته: ليجتهد طالب العلم في حفظ مختصرات الفن الذي يشتغل به,,, فلو حفظ طالب العلم العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية وثلاثة الأصول وكتاب التوحيد للشيخ محمد وفي الفقه مختصر الدليل ومختصر المقنع وفي الحديث بلوغ المرام وفي النحو الاجرومية واجتهد في فهم هذه المتون وراجع عليه ما تيسر من شروحها أو كتب فيها فإنها كالشروح لها لأن طالب العلم إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها الصغار والكبار ومن ضيع الأصول حرم الوصول (15) . وقد قرر الشيخ في دروسه حفظ أغلب هذه المختصرات التي ذكرها, قال صاحب سيرة العلامة السعدي: وكان في بعض الأحيان يقدم المكافآت لمن يحفظ منهم المتون تشجيعاً لهم ولسواهم من زملائهم وكل من ثبت حفظه لديه سلمه المكافأة المقررة (16) . 3 توضيح المسائل العلمية وتقريبها: كان رحمه الله حريصاً على تقريب المسائل لأذهان المتعلمين وتصويرها وشرحها مما يجعلها واضحة لا لبس فيها ولا غموض وقد قال في هذا المعنى: ينبغي سلوك الطريق النافع عند البحث تعلماً وتعليماً فإذا شرع المعلم في مسألة وضحها وأوصلها إلىأفهام المتعلمين بكل ما يقدر عليه من التعبير وضرب الأمثال والتصوير والتحرير (17). وقد بين الشيخ محمد العثيمين حفظه الله أنه تأثر بطريقة شيخه هذه حيث قال: إنني تأثرت به كثيراً في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني (18) . 4 مناقشتهم ومذاكرتهم بما مضى: لأن في ترك الماضي نسياناً له فكانت طريقة الشيخ في تدريسه لطلابه ألا ينتقل من مسألة إلى أخرى إلا بعد ضبط السابقة ومذاكرتها مع تلاميذه وتأكده من رسوخها وقد قال رحمه الله في هذه الطريقة: ينبغي تعاهد محفوظات المتعلمين ومعلوماتهم بالإعادة والامتحان والحث على المذاكرة والمراجعة، والإعادة بمنزلة السقي لها وإزالة الأشياء الضارة عنها لتنمو وتزداد على الدوام (19) . وقال أيضاً: ينبغي ألا ينتقل المعلم من نوع من أنواع المسائل إلى نوع آخر حتى يتصور ويحقق السابق فإنه درك للسابق وبه يتوفر الفهم على اللاحق فأما إذا أدخل المسائل والأنواع بعضها ببعض، قبل فهم المتعلم، فإنه سبب لإضاعة الأول، وعدم فهم اللاحق، ثم تتزاحم المسائل التي لم يحققها على ذهنه، فيملها ويضيق عطنه عن العود إليها، فلا ينبغي ان يهمل هذا الأمر (20). وقال تلميذه القاضي عن استخدامه لهذه الطريقة في تدريسه: كان يجمع الطلبة كلهم على كتابين، واحداً بعد آخر، وبعد انتهاء الجلسة يطلب من ثلاثة منهم اعادة ما يستحضره من التقرير,, ويناقشهم بعد يوم عما مضى، فكانت فائدته عظيمة، ويهتمون اذا علموا بالاعادة والبحث عما قرره عليهم (21). 5 تغليط نفسه أمامهم لاختبارهم: وهذه الطريقة نافعة مع الطلاب المنتظمين لأن فيها من لفت انظارهم وتحريك اذهانهم ما يجعل الطالب مستعداً للتلقي في كل ساعات الدرس، وما يبعده عن الغفلة والسهو، أما من يرى خطأها فربما يكون في تطبيقها على العامة حيث قد يرسخ الخطأ ولا يدرك التصحيح، أما على الطلاب الملازمين فيزول هذا المحذور المحتمل، وتبقى الفائدة المتحققة. وقال تلميذه القاضي: وكان يطرح المسائل على الطلبة ليختبر اذهانهم ويتعمد احياناً تغليط نفسه أمام الحلقة ليرى من هو حاضر الذهن لتقريره ممن هو شارد الذهن، ولمعرفة النجيب الفطن من ضده، وتلامذته قد عرفوا منه ذلك, (22) 6 عقد المناظرات بين طلابه: إن المناظرة العلمية باب من أبواب العلم، وطريقة مثلى لتقريبه للذهن وكان الشيخ مولعاً بالمناظرات سالكاً لها، سواء في تأليفه أو تدريسه، وقد بين رحمه الله أهدافها وآدابها وثمراتها. وقد سلك هذه الطريقة مع تلاميذه لتقوية مداركهم وتثبيت معارفهم,, قال صاحب سيرة العلامة السعدي: ومن ميزاته وشفوف نظره رحمه الله انه كان يعقد مناظرات بين طلابه المحصلين لشحذ أفكارهم وصقل أذهانهم، وتدريب ألسنتهم وتعويدهم اقامة الحجة والبرهان (23). 7 وضع الجوائز للمتفوقين: لقد كان رحمه الله من حرصه على إفادة التلاميذ أن جعل للمتفوقين منهم والمجيبين على الاسئلة التي يلقيها عليهم الجوائز القيمة تشجيعاً لهم وترغيباً لغيرهم وإظهاراً لتفوقهم ونبوغهم. جاء في سيرة العلامة السعدي في وصف تدريسه لطلابه: وكان بعض الأحيان يقدم المكافآت لمن يحفظ منهم المتون تشجيعاً لهم ولسواهم من زملائهم وكل من ثبت حفظه منهم لديه سلمه المكافأة المقررة (24) . وقال القاضي في ترجمته للشيخ: ويعطي الجوائز على حفظ المتون وقوة الفهم,,,والجواب على أسئلته التي يوردها عليهم (25) . منهجه مع العامة: عاش السعدي رحمه الله حياته كلها باذلاً للخير نافعاً للناس محسناً إليهم على اختلاف طبقاتهم ومن يرى مصنفاته ومؤلفاته ويعلم جهده واجتهاده في تعليم تلاميذه يظن أن وقته كله صرفه لهذه المجالات ولم يدرك عامة الناس منه نصيباً فإذا ما تصفحت حياته وعلمت آثاره أصابتك الدهشة وأخذك العجب!! كيف وجد الشيخ وقتاً لكل هذه الأعمال ومتسعاً للنفع لكل مجال؟ لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء. لقد كان رحمه الله حريصاً على الإحسان لكل الناس وقضاء حوائجهم ومشاركتهم في اجتماعاتهم ومجالسهم ويرى أن هذه الاجتماعات وسيلة إلى الدعوة إلى الله ونشر العلم والخير وتربية الناس على عبادة الله وطاعته وبين رحمه الله أن هذه المجالس ليس فيها إضاعة للوقت كما يظن بعض الناس إنما هي بهذه النية الصالحة من حفظ الإنسان لوقته وقد وضح رحمه الله منهجه في ذلك عند حديثه عن حرص ابن الجوزي رحمه الله لوقته عندما رأى كثرة الزائرين له فجعل يقوم ببعض الأعمال التي لابد منها كتقطيع الأوراق وبري الأقلام أثناء زيارة الناس فقال الشيخ في التعليق على هذا: فقلت: سبحان من منّ على هؤلاء السادة بحفظ أوقاتهم وبقوة العزيمة والنشاط على الخير ولكن كل كمال يقبل التكميل والرقي إلى حالة أرفع منه فلو أن هؤلاء الأجلاء جعلوا اجتماعهم مع الناس للزيارة والدعوات وغيرها من المجالس العادية فرصة يغتنمون فيها إرشاد من اجتمع بهم إلى الخير والبحث في العلوم النافعة والأخلاق الجميلة والتذكر لآلاء الله ونعمه ونحو ذلك من المواضيع المناسبة لذلك الوقت ولذلك الاجتماع بحسب أحوال الناس وطبقاتهم وانهم وطنوا أنفسهم لهذا الأمر وتوسلوا بالعادات إلى العبادات وبرغبتهم إلى الاجتماع بهم إلى انتهاز الفرصة في إرشادهم لحصل بذلك خير كثير وربما زادت هذه الاجتماعات مقامات عالية وأحوالاً سامية مع مافي ذلك من النفع العظيم,,, فمن كانت هذه حاله لم يتبرم باجتماعه بالخلق مهما كان حريصاً على حفظ وقته لأن التبرم والتثاقل إنما هو للحالة التي يراها العبد ضرراً عليه ومفوتة لمصالحه (26) . طرق تعليم العامة: وضح رحمه الله مجالات نفع العامة وبين أنهم يختلفون عن غيرهم ووجه طلبة العلم إلى سلوك هذه الطرق لنفع الناس وتوجيههم فقال: التعليم له طرق كثيرة سوى طرق التعليم في المدارس على اختلاف أنواعها وسوى طرق تعليم الطلبة المستعدين للتعليم في أوقات مرتبة وعلى طرائق مختلفة وليس المقصود هنا شرح حالة التعليم في المدارس وتعليم الطلبة المستعدين وكيفية ذلك فإن لهذا محلاً غير هذا وإنما المقصود الوسائل والطرق الأخرى التي يجب على أهل العلم أن يسلكوها في إيصال العلم إلى الناس على اختلاف طبقاتهم ورفع الجهل بحسب الإمكان فمنها: إلقاء العلوم في المساجد وينبغي أن يلقى ما يكون فهمه أقرب إلى أذهانهم وأن يكون أهم الأشياء وأنفعها وتكون بعبارات مناسبة لأذهان السامعين وأن يلقى في كل موسم ومناسبة ما يليق ويتعلق به فإن فهم الأشياء الحاضرة أقرب وأشوق للأذهان من أن تكون بغير وقتها وكذلك ينبغي أن يفهموا تدخيل الصور والتفاصيل الموجودة التي يعرفونها ويعرفون وقوعها ويبين لهم موضعها ومحلها من العلم. وكذلك ينبغي إلقاء العلوم النافعة في النوادي الكبار والصغار وفي المجامع التي يجتمع فيها أهل العلم بالعوام إما بإلقاء أمور تخفى عليهم ولا يستثقلونها إذا رأى أذهانهم قابلة وقلوبهم مصغية وأما إذا حصل مناسبة عند المخاطبات بين الناس فإنهم يخوضون في كل حديث وفي كل موضوع دنيوي وقل موضوع منها إلا ويجد العالم البصير موضعاً ومحلاً لإلقاء ولو بعض المسائل فبيان القليل خير من الترك بالكلية والعالم الحاذق يتمكن أن يجري مع العوام في أحاديثهم العادية ويلقي ماشاء الله من المسائل التي تنفعهم في أثناء تلك الأحاديث والناصح لنفسه ولغيره يحصل في هذا خيراً كثيراً. ومن ذلك أيضاً: النصائح الخاصة: بالأشخاص باختلاف رتبهم من رآه مقصراً في واجب من واجبات الله وحقوق الخلق نصحه سراً وعلمه الواجب,,, ومن رآه متجرئاً على محرم متعمداً أو جاهلاً نصحه ووعظه وبين له الوجهة التي يجب عليه سلوكها,, فكم حصل بهذه الطريقة من تعليم للجاهلين وإرشاد للغافلين وتوجيه للخير للمعرضين أو المعارضين وكان رحمه الله من المطبقين لهذه الأساليب السالكين لجميع الطرق التي فيها نفع للعامة وكان كثير المجالسة لعامة الناس بل ربما دون مواعيد جلساته مع العامة عند أحد تلاميذه وإذا جلس في المجلس حدث الناس بما يفيدهم دون مضايقة لأحد أو قطع لحديث بل يكلم كل شخص بما يناسبه. وكان قد أوصى أحد تلاميذه أن يطرح عليه سؤالاً إذا رأى أن أمور الدنيا قد طغت على المجلس ليتمكن من خلاله من إفادة الحاضرين وقلب المجلس إلى مجلس علم وخير دون قطع للمجلس أو إثارة للحاضرين. ومع حرصه على تبصير الناس بأمور دينهم كان حريصاً على مساعدتهم وقضاء حاجاتهم وتقديم الشفاعة لهم وإصلاح ذات بينهم. حدثني أحد أبنائه عن حرص والده على مساعدة الناس فقال: طرق علينا الباب أحد الناس لحاجة له وكان الوالد يتناول طعام الغداء فأخبرنا الرجل فرجع فلما علم الوالد بذلك غضب غضباً شديداً وقال: قضاء حوائج الناس أحب إلينا من الطعام فكان بعد ذلك يحرص أن يرد بنفسه على الطارق. وللحديث بقية إن شاء الله 1 الجهاد في سبيل الله، المجموعة الكاملة، ثقافة 1/173 2 وجوب التعاون بين المسلمين، المجموعة الكاملة، ثقافة 1/200 3 فوائد في آداب المعلمين والمتعلمين، المجموعة الكاملة، الفتاوى ص 455 4 المرجع السابق 5 المرجع السابق ص 450 6 المرجع السابق ص 452 7 المرجع السابق ص 453 8 المرجع السابق ص 455 9 المرجع السابق ص 454 10 الرياض الناضرة، المجموعة الكاملة، ثقافة 1/432 11 روضة الناظرين للقاضي 1/225 12 علماؤنا للبراك والبدراني ص 46 13 سيرة العلامة السعدي جمع وترتيب محمد حامد الفقي ص 12 14 الرياض الناضرة ، مرجع سابق 1/430 15 الفتاوى السعدية، المجموعة الكاملة، فتاوى ص 26 16 سيرة العلامة السعدي ص 12 17 فوائد في أداب المعلمين والمتعلمين، مرجع سابق ص 454 18 علماؤنا، مرجع سابق ص46 19 فوائد في آداب المعلمين والمتعلمين، مرجع سابق ص 454 20- المرجع السابق ص 450 21- روضة الناظرين، القاضي 1/223 22- المرجع السابق 1/224 23 سيرة العلامة السعدي، جمع وتقديم محمد حامد الفقي ص 12 24- سيرة العلامة السعدي، مرجع سابق ص 12 25 المرجع السابق 26 روضة الناظرين للقاضي 1/223 27 الفتاوي السعدية، مرجع سابق ص 40 28 الرياض الناضرة، مرجع سابق 1/438