تتفاعل هذه الأيام أنشطة المقاطعة الشعبية الشاملة في البلاد العربية لجميع السلع والبضائع الصهيونية والأمريكية وجميع الدول التي تساند العدوان على الأمة العربية والإسلامية وعلى المقدسات الشريفة في القدس العربية، ويمثل هذا الشعور الرائع الذي يمتد من الخليج إلى المحيط صلابة هذه الأمة وقدرتها على التعبير عن شعور الاشمئزاز من تصرفات تلك الدولة الكبرى التي أتاحت لها الظروف أن تتزعم العالم، فأمعنت في العربدة وإهانة الشعوب والاستهتار بأيسر ما تنص عليه مبادئ الأخلاق والأعراف الدولية والمواثيق والقرارات الأممية, إن الشعوب الحية لا تنسى الإساءات ولابد لها أن تنتقم بطرق مختلفة, والمقاطعة العربية الشاملة لبضائع الدول المساندة لدولة العدوان الصهيونية نوع من الانتقام الذي تمارسه الشعوب سلمياً، فليس من حق أحد أن يجبر إنساناً على أن يشتري سلعة يذهب ثمنها إلى عدوه الذي يقتل أطفاله ويرمل نساءه ويهدم مساكنه ويقتلع أشجاره، بل إن من الغريب أن يشتري إنسان سلعة يعرف أن مصدرها مجاهر له بالعداء، ومعين مباشر للأعداء ومشجع على الاعتداء, ولقد التف الناس حول الفتاوى الجليلة التي أصدرها أصحاب الفضيلة العلماء بتحريم شراء مثل هذه السلع، وتأثيم من يتساهل في ذلك فكانت هذه الانتفاضة الاقتصادية التي سوف تجبر الآخرين بإذن الله على احترام حقوق العرب والانصياع إلى الحق والامتناع عن ذلك الاستهتار البشع بالحقوق المشروعة للعرب والمسلمين. في خضم هذا الشعور العربي الرائع الذي يدل على الصلابة والإيمان والتضحية في ظروف يجاهد فيها العرب والمسلمون لا نتزاع الحد الأدنى من حقوقهم والاحتفاظ بمقدساتهم، ومقارعة العدوان الظاهر والمستتر الذي تقوم به دولة العدو وأعوانها تظهر بيننا بعض الأقلام التي تنتقد المقاطعة أو تشكك في جدواها أو تغلب المصالح الفردية الأنانية على المصلحة العربية العامة, هذا النوع من التخذيل موجود في كل زمان ومكان عندما تتقد جذوة الجهاد أو يهب القوم للدفاع عن الثوابت، أو يشتد لهيب المعركة, مثل هؤلاء المخذلين يبرزون في كل مناسبة تتحد فيها الأمة على رأي، أو تستبد بها رغبة للنهوض والتغيير. والمخذلون أنواع منهم العملاء والمنافقون، ومنهم أصحاب المصالح الخاصة الذين قد تهدد مصالحهم بالأوضاع الحادثة، ومنهم السذج والأنانيون الذين ركنوا إلى السائد وإن كان مهينا، واستطابوا العيش في مستوى معين لا يريدون تغييره، وهؤلاء ليس لديهم استعداد للتضحية بشيء مما ألفوه في سبيل مبدأ عام، أو مصلحة عامة، ولو كانت هذه التضحية لا تكلفهم كبير عناء؛ وهم يلتقون مع أصحاب المصالح الخاصة الآنية, ومن المخذلين وهم أخطرهم قوم يدعون العلم والمعرفة فيوجهون ما لديهم من معلومات في اتجاه التخذيل بدلا من توجيهها في سبيل نصرة القضايا المصيرية لأمتهم. لقد قرأنا في الأيام الماضية كلمات تهزأ وتستخف بالمقاطعة الشعبية للبضائع اليهودية الأمريكية أو غيرها وكأن أصحاب هذه المقالات يهزأون ويستخفون بشعور أمة أجمعت من المحيط إلى الخليج على رفض الإهانة، وصممت على أن تعبر عن شعورها بأضعف الإيمان، وهو استعمال الحق الشرعي لكل إنسان بالتعامل اقتصادياً مع من يريد، ورفض التعامل مع من لا يريد, وبصرف النظر عن جدوى المقاطعة أو عدم جدواها فإن هذا الشعور الرائع الرافض للإهانة كان من المتوقع أن يقابل بالاحترام والإكبار، وأن يكون دليلا على يقظة الأمة وحسن توجهها، والتدليل على أن الأمة العربية لم تمت أو تخدر كما يريد لها أعداؤها وإنما هي أمة البذل والتضحية لو أتيحت لها الإمكانات ومكنتها الظروف، وهي أمة يخشى منها الغرب ولذلك قطع أوصالها وأثار بين أبنائها الفرقة وأشعل الخلافات، وكان دائما وأبداً يتحين الفرص لبث الفتن بين أبنائها مما هو معروف ومشاهد. إن الاستخفاف بهذا الشعور النبيل يمثل في نظري شذوذاً لا يتفق مع الانتماء الحقيقي للأمة, ولا مع الانحياز إلى قضيتها المصيرية التي يشتد الكفاح من أجلها هذه الايام, ولو كان لدى هؤلاء ذرة من الانتماء لما استخفوا بهذا الشعور القومي الجارف الذي تجسد في معظم البلاد العربية بطريقة عفوية تلقائية. وإذا نظرنا إلى طروحات القائلين بعدم جدوى المقاطعة فإننا نجدها في منتهى التفاهة وإن ألبسوها لباس الإحصائيات أو صبغوها بصبغة العلمية المظلومة. ومعلوم أن الإحصائيات ليست دائما دليلا على الصواب إذ إنها يمكن أن تستخدم بطرق مختلفة لتأييد رأي معين ولو لم يكن هذا الرأي صحيحا, ولعل من أعجب هذه الطروحات القول بأن أمريكا دولة عظمى وان المقاطعة لن تؤثر على اقتصادها، ولم يقل احد إن امريكا ليست دولة عظمى ولا أحد قال إن اقتصادها سينهار إذا تمت المقاطعة, ولكن ما يمكن أن يقال إن في أمريكا شركات ضخمة لها مصالح مؤكدة في البلاد العربية، وأن المقاطعة بلا شك سوف تؤثر على مصالح تلك الشركات، ومن هنا فإن هذه الشركات سوف تضغط من جهتها على مواقع كثيرة في أمريكا لها تأثير كبير في صياغة القرار، مما يؤمل معه اعتدال النظرة الأمريكية في التعامل مع العرب, ومعلوم أن العرب لا يطلبون من أمريكا الانحياز إليهم، وإنما يطلبون فقط التعامل مع قضيتهم بحياد، وتحكيم قرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي، التي تنتهكها كل يوم دولة العدوان الصهيوني بمباركة ومشاركة وتشجيع وإغضاء من قبل (الراعي!) الأمريكي, ومن هذا المنطلق فإن المقاطعة سوف تحقق أهدافها إذا استمر العرب فيها وأصروا عليها. ومن المغالطة الواضحة القول بأن هذه الشركات لن تتأثر من المقاطعة, ومن أراد التأكد من شدة تأثير المقاطعة فلينظر حركة البضائع في موانئ البلاد العربية ليشاهد بنفسه كميات الاستيراد القادمة من أمريكا أو غيرها، ولينظر في حركة التنقلات بين رجال الأعمال القادمين إلى البلاد العربية والذاهبين منها ليدرك حجم هذه التجارة، هذا إذا لم يرد الاطلاع على حجم التجارة الخارجية بين أمريكا والبلاد العربية وهو معروف في شكل إحصائيات ودراسات منشورة. إن الصراع على أسواق المنطقة معروف ومشاهد بالعين المجردة فهل يريد هؤلاء أن نعتقد أن وجود المنتجات الأمريكية في البلاد العربية وجود هامشي؟ قد لا تخسر بعض الشركات المقاطعة ولكنها بالتأكيد لن تحقق أرباحا كتلك التي تحققها عادة، والانخفاض في الأرباح له تأثيره على أي منشأة اقتصادية، وبخاصة في أمريكا وبلاد أوروبا التي تستميت كل منها في سبيل إيجاد موطئ قدم لها في بلادنا. وهذا يكفي للضغط على هذه الشركات التي يمكن أن يكون لها تأثير واضح على القرار الأمريكي أو يجعلها على الأقل تشعر بثقل العبء الذي تتحمله أمريكا من أجل الانحياز إلى دولة العدو والتضحيات التي يبذلها المواطن الأمريكي من أجل ذلك, الأمر الذي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وتعجب حين يخلط بعض الكاتبين بين المقاطعة الشعبية والمقاطعة الحكومية فيتحدثون عن المقاطعة العسكرية والنفطية وغيرها مما هو بيد الحكومات وليس بيد الأفراد العاديين, ولم يقل أحد أن تكلف الحكومات ما ليس بالممكن، فنحن نعرف أننا في حقبة القطب الواحد، كما نعرف أن الحكومات العربية تدرس مثل هذه الأمور وفق الإمكانات المتاحة في السياسة الدولية، وقد تكون لها اعذارها في هذا الصدد، وإن كنا نظن أن مقاطعة إسرائيل أصبحت واجبة وان رفع المقاطعة العربية عنها من قبل الدول العربية لم يعد له ما يسوغه بعد أن نكثت هذه الدولة المعتدية بعهودها ومواثيقها وكسبت من رفع المقاطعة مكاسب ما كان لها أن تكسبها لو بقيت المقاطعة العربية مستمرة، فعلى العرب أن يجردوا إسرائيل من هذه الميزة التي أعطوها لها مجاناً بدون مقابل, أما المقاطعة الشعبية فهي مقاطعة لا تخضع لقواعد السياسة ولا لما يدور في كواليسها وإنما هي استجابة عفوية تعتمد على يقظة ضمير الإنسان، ومدى إحساسه بالظلم الحادث على إخوانه وعلى مقدساته في فلسطين, وأعتقد أن الشعوب العربية وفي مقدمتها شعبنا السعودي كان على مستوى الحدث فبادر الكثير من أفراده إلى المقاطعة، وبخاصة أن هنالك بدائل كثيرة مطروحة في السوق السعودي الحر. إن من أروع صور هذه الانتفاضة الاقتصادية أن تجد الأطفال يتحمسون كثيراً لها فنجد الطفل في البقالة يبحث عن منشأ البضاعة ويرشد أمه أو أباه إلى مصدرها، أو تجد بعضهم يمتنع عن شراء الوجبات الأمريكية السريعة عن ا قتناع وإحساس بالمسؤولية تجاه دينه وأمته, وهكذا خسرت أمريكا سمعتها بين أجيالنا الواعدة وسوف يتربى جيل على كره كل ما هو أمريكي على الرغم من الدعايات والتأثيرات الأمريكية التي تصبغ حياتنا, إن التأثيرات الأمريكية مهما عظمت لن تفلح في غزو الضمائر الحية ولست أنسى منظر بعض طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت في إحدى القنوات الفضائية وهم يتحدثون بفخر عن مناهضتهم الفاعلة للسياسة الأمريكية المنحازة، ومما قالوا: إن السفير الأمريكي لا يستطيع دخول الجامعة إلا من باب خلفي, وكذلك ما تحدثت به الأخبار عن انشطة طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة. إن المخذلين من الكتاب هم فئة كبر عقلك التي تريد أن تؤطر كل شيء حتى مشاعر الشعوب وأحاسيسها، وهم يرون في كل ما يخالف تصوراتهم تهورا فعلينا إذن حسب رؤيتهم النافذة أن نصبر على الذل وأن ننتظر ما تأتي به المفاوضات الهزيلة بين الصهاينة والسلطة الفلسطينية، وأن نرضى بالنتائج البائسة التي تبين لكل ذي عينين مدى ضحالتها، والتي نقضتها دولة العدوان في أقرب مناسبة, بمنطق كبر عقلك ذهب العرب إلى كامب ديفيد الأولى وإلى مؤتمر مدريد وذهب الفلسطينيون إلى أوسلو فأي سلام حصدنا من كل ذلك؟ واي راع هذا الذي رعى السلام وأوصله إلى بر الأمان؟ هل يستكثر علينا هؤلاء المثبطون أن نعبر عن رأينا بالمقاطعة الصامتة لكل ما هو صهيوني أو أمريكي أو أي منتج لأي دولة ثبت استخفافها بنا أو ساعدت على تكريس الذل لنا وإهانتنا؟ لقد كنت أود الاستشهاد بتجربة الزعيم الهندي غاندي في مقاطعة البضائع الإنجليزية في الأربعينات، وبخاصة الملابس القطنية التي كانت تصدرها بريطانيا إلى الهند، والملح الذي كانت بريطانيا تستخرجه وتصدره، فحث غاندي الشعب الهندي على نسج ملابسهم بأنفسهم واستخراج الملح من البحر بأيديهم، فكانت المقاطعة السلبية الصامتة لكل ما هو بريطاني، الأمر الذي عجل باستقلال الهند, كنت أود أن أكتب عن تأثير تلك المقاومة الباسلة للشعب الهندي في مواجهة امبراطورية لم تكن الشمس تغرب عنها، فإذا بي أرى مقالاً قيما للدكتور فهد سعود اليحيا في هذه الجريدة بعنوان سلاح غاندي الماضي (العدد 10303 بتاريخ 17 رمضان 1421ه الموافق 13 ديسمبر 2000) يوضح تلك المقاطعة الناجحة التي تعطي المثل على جدوى المقاطعة الاقتصادية القائمة على اقتناع الأفراد بعدالة قضيتهم, وقد ضرب الدكتور اليحيا مثلا بالتدخين، ونصيب أمريكا منه في أسواقنا نصيب الأسد، فلو قاطع مليون شخص مدمن الدخان الأمريكي فكم ستخسر شركات التبغ الأمريكية؟ وأقول إن التقديرات لعدد المدخنين في المملكة تقارب خمسة ملايين مدخن فهل يمتنع هؤلاء أو معظمهم، عن هذه الآفة الضارة بصحتهم فيقاطعوا السجائر الأمريكية ويقلعوا عن التدخين في هذا الشهر الكريم، فيكونوا بذلك قد حصلوا على الحسنات الكثيرة. حفظ الصحة وتوفير المال والمشاركة الفاعلة في الكفاح ضد العدوان بإلحاق الخسائر بهذه الشركات الأمريكية, إنهم إن فعلوا ذلك سيكونوا قد أسدوا لأمتهم خدمة جلى تدخلهم في عداد الأبطال، وقس على ذلك كثيرا من السلع الكمالية التي تدخل بيوتنا والتي لن نخسر شيئا لو استغنينا عنها أو استبدلنا بها سلعا أخرى من منشأ آخر, بل إن كثيراً من السلع الأساسية لها بدائل كثيرة وربما كانت أجود منها, وأنا أجزم بأن كثيراً منا لم يكن يشتري السلعة لأنها أمريكية، ولعله لا يعرف الفرق بين هذه السلعة أو غيرها من السلع المطروحة في الأسواق، ولذلك فإنه لن يشعر بالفرق كثيراً حين يغير من سلعة أمريكية إلى غيرها، فقط أصبح عليه الآن أن يفرز السلعة الأمريكية ويشتري بديلاً لها, وهو أمر سهل مردوده عظيم على قضية الأمة الكبرى. عضو مجلس الشورى