في مجتمعاتنا الخليجية نفر من الناس يصح أن يطلق عليه: مع الخيل يا شقرا! معهم معهم أوعليهم عليهم! نفر وإن كان ليس بالكثرة الكاثرة؛ لكنه يثير الغبار ويدوش، فقد يندفع ويسير في الشوارع مع من يسيرون، رافعين مطالب كان بالإمكان إيصالها بطرق مختلفة دون اللجوء إلى إحداث فوضى أو توتر سياسي. إنها إنفلونزا معدية، تنتقل بدون اختيار فيصاب بها من ليس لديه مناعة قوية وفكر عميق ووعي ينير له الطريق ويبصره بالسيئ والحسن، ويحميه من الانزلاق أو الاندفاع هيجانا دون حكمة أو روية. إنها تداعيات ما يسمى الربيع العربي، فقد تأثر بعض أبناء منطقتنا الخليجية بهيجانه، تقليدا لبعض خطاباته، متناسين اختلاف البيئات، والتاريخ، وأنظمة الحكم في الخليج، وأنها لا تلتقي مع أنظمة عسكرية مستبدة، تسللت إلى سدة قيادة بلدان عربية في غفلة من الزمن على دبابة في ليلة ظلماء وببيان إذاعي متوتر ومرتبك بانقلاب عسكري مباغت وما تبعه من تصفيات دموية، كما حدث في العراق حين ثار عبد الكريم قاسم في تموز 1958م على الملكية الهاشمية بوجه شيوعي لم يستمر طويلا حتى ثار عليه البعثيون وسحلوه، ثم ثاروا على بعضهم في تصفيات دموية بشعة إلى أن انتهى العراق إلى قبضة صدام حسين الحديدية عام 1979م وما أوصله إليه من اضطراب ثم احتلال أمريكي أسلم العراق في نهاية الأمر إلى احتلال فارسي بغيض، وثورات العسكر المتتالية في سوريا التي لايعمر أطولها أكثر من عام! بدءا بحسني الزعيم 1949م وانتهاء بما أسماه حافظ أسد ثورة التصحيح « المشؤومة « عام 1970م ومابين القوسين من عندي، وما انتهى إليه أمر سوريا التي انتفضت على الدكتاتورية الدموية والحكم البوليسي الطائفي الباطني المنتمي إلى خارج محيطه العربي الإسلامي، فها هو الشعب السوري الباسل يناضل من أجل الخلاص من قبضة العسكر الآثمة فثورته حق إنساني وديني ووطني، أوالثورة المصرية على الحكم الملكي 23 يوليو 1952م وما أعقبها من تغلغل سلطة العسكر وتجاربهم الأيدلوجية الاشتراكية القومية في عهد جمال عبد الناصر ثم الانفتاح الرأسمالي في عهدي السادات وحسني مبارك، فثورة الشعب المصري حق مشروع للخروج من بؤس حكم العسكر وتسلطهم وتخبطهم وفسادهم إلى نظام ديموقراطي منتخب اختاره الشعب المصري ورضيه. وليس بعيدا عن ثورة الشعب المصري هيجان الشعب الليبي البطل على حكم معمر القذافي الذي وصل إلى السلطة شابا مراهقا مندفعا يناهز السابعة والعشرين بانقلاب عسكري في ليلة ظلماء على الملك إدريس السنوسي ملك المملكة الليبية عام 1969م وما تبع ذلك الانقلاب من مجازر وتصفيات وفساد وقلاقل وتخبطات سياسية صبيانية حتى انتهى به الأمر إلى أن يسقطه الشعب الليبي في ثورة مسلحة ولا يجد له مفرا ولا مخبأ إلا معبر ماء في صحاري مدينة بني وليد، وكذا الشأن في بلدان عربية أخرى كتونس التي اندلعت منها شرارة الثورات العربية بعد أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه 17 ديسمبر 2010م وثار الشارع التونسي المحتقن بسبب ضغوط الفقر والبطالة والفاد على نظام عسكري بوليسي مخابراتي لا يملك من الخبرة السياسية مايؤهله لقيادة تونس فلجأ إلى القبضة الحديدية التي لم تجد شيئا، وكذا الأمر في اليمن التي انتقلت من الحكم الملكي إلى انقلابات وتصفيات عسكرية باطشة بدأت بثورة 26 سبتمبر 1962م على المملكة اليمنية المتوكلية وانتهت بسقوط نظام علي عبدالله صالح في لهيب الربيع العربي، وهكذا تداعت الأنظمة العسكرية واحدا بعد الآخر؛ لأنها تفتقد التأريخ والخبرة والتقاليد السياسية العريقة والصلات العميقة مع شعوبها، وتتعامل بلغة العسكر الحاسمة التي لها أبدا وفي كل الأحوال القول الفصل في أية أزمة، ولغة العسكر المعروفة التي ذاقت منها الشعوب العربية الويل كل الويل هي التصفية والتعذيب والتغييب والمطاردة بكواتم الصوت حتى في بلدان المنافي البعيدة كما كان يفعل القذافي وحافظ أسد! هذه هي أنظمة العسكر المستبدة التي سامت شعوبها سوء العذاب، وقفزت إلى السلطة قفزا مستغلة ظروفا مواتية لتقود شعوبها إلى الفقر والتخلف والقلاقل السياسية نتيجة لفقدانها الخبرة والمران والتاريخ والتقاليد واستخدامها العنف لغة وحيدة للحوار. إن أنظمة الحكم في منطقة الخليج لا تتشابه بحال مع تلك الأنظمة، وما أنجزناه في قطاعات التنمية على مستويات مختلفة يفوق بكثير ما انحدرت فيه بلدان عربية من تخلف صحي وتعليمي واجتماعي رغم أسبقية كثير منها في الابتعاث والتعليم والتنوير والنهضة، ولذا فإن تقليد هيجان الشارع العربي - كما حدث في الكويت - يصبح تجديفا في الفراغ واستهلاكا للطاقة وتبديدا للجهود وتشتيتا للرؤية وتضييعا أو إضعافا لأفكار إصلاحية كان يمكن أن تثمر وتزهر لو أحسن تقديمها بطرق ملائمة لثقافة المنطقة وتقاليدها، وباستخدام وسائل الإعلام والاتصال الحديثة والحوار البرلماني الشفاف والجريء للمطالبة بما يرى أي وطني مخلص الأخذ به من وجوه الإصلاح والتقويم. إن رفض هيجان الشارع لا يعني أن دولنا جنة في الأرض، لا تعاني من مشكلات ولا نواقص ولا قصور ولا مظاهر للفساد؛ لا. أبدا فهي كغيرها من بلدان الدنيا تعاني من مشكلات جمة كالفقر والبطالة وقصور في التنمية وغياب في التمثيل البرلماني أو الشوري الحقيقي، ونقص في عدالة توزيع الثروة؛ لكن العقل الواعي الحكيم لن يندفع لعلاج مثل هذه السلبيات بإهدار كل المكاسب التي تحققت، بأن يحرق روما، أو يهدم المعبد على من فيه!. المنطق الحكيم يقول: حافظ على المكتسبات وطالب بالمزيد، وإن رأيت أنك ستخسركل ما أنجزت فأعد التفكير في خطواتك المطالبة بالإصلاح، فالحفاظ على عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة! [email protected] mALowein@