لقد أنعم الله على هذه البلاد المباركة برجال عاهدوا الله على غرس بذور الفلاح والصلاح، ومحاربة البدع والخرافات، ونشر عقيدة التوحيد الخالص لله رب العالمين. فشدَّ الله تعالى أزرهم، وألهمهم باتفاق الدرعية بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله -، فكانت هذه الاتفاقية نقطة تحوُّل في تاريخ المملكة العربية السعودية، حيث مهّدت الطريق للملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - لتأسيس دولة فتية مكتملة البنيان. فما أعظم هذه الشخصية المتفرّدة التي كانت تستشرف المستقبل وتحرص على إقامة العدل! فالعدل أساس المُلك. وما نظام القضاء في المملكة والمرتكزات الأساسية التي قام عليها في هيكله إلاّ نتاج هذا المنهج القويم الذي انعكس أثره على الأوضاع الاجتماعية، رغم خضوع الدولة في أول الأمر لأنواع متباينة في الحكم اختلف تبعاً لذلك أنماط القضاء من منطقة لأخرى، حيث ظهر نمطان في القضاء، الأول: في البادية يتأثر بمحدودية البيئة، وما يستحكم فيها من موروث ثقافي واجتماعي. والثاني: في الحاضرة يتأثر بسمة تأصيلية، حيث يدرك الناس في مجملهم وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية. وفي غضون هذه الفترة تأسست رئاسة القضاء في عهد الملك عبد العزيز - طيَّب الله ثراه -. ولا مجال للمقارنة بين القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية التي نهلت أحكامها من معين القرآن الكريم والسنّة المطهرة. يقول تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} النساء 65، حيث يقسم المولى عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا يدخل الإيمان قلوب المؤمنين حتى يرضوا بحكمه طائعين منقادين، ويسلموا بما حكم بلا تبرُّم ولا ضجر. وحتى يستطيع القارئ أن يقف على القضاء في المملكة، لابد من معرفة جهات القضاء العام، فوزارة العدل تتولّى الإشراف الإداري والمالي على المحاكم والدوائر القضائية. أما المحاكم الشرعية فتتكوّن من مجلس القضاء الأعلى الذي تشكّل بعد تحويل رئاسة القضاء إلى وزارة للعدل. وهو ينظر في شؤون القضاء الوظيفية ويعتبر أعلى سلطة قضائية مختصة في القضاء العام، والمحكمة العليا التي تتولّى مهام استصدار المبادئ القضائية والتدقيق على الأحكام المصادق عليها من محكمة الاستئناف، أما محكمة الاستئناف (التمييز) فتتولّى مهمة التصديق على الأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائية، والمحاكم العامة والمحاكم الجزائية، وتطبق كل المحاكم على القضايا المعروضة أمامها نظام المرافعات الشرعية. أما ديوان المظالم أو ما يُعرف بالقضاء الإداري، فهو مستقل ولا تتدخّل وزارة العدل في شؤونه. كثيراً ما كنا نسمع من بعض الناس، أنّ القضاء في المملكة يتسم بضعف الإنجاز وتطويل مدة التقاضي، فهذا مبالغ فيه قد تطول مدة التقاضي بعض الوقت، ومرجع ذلك لأسباب منها: مجانية تقديم الدعاوي لدى المحاكم، وهذا له إيجابيات وسلبيات، أما الإيجابيات فتتمثل في إتاحة الفرصة للمحتاجين لتقديم شكاويهم دون عقبات، وأما السلبيات فتتمثل في كثرة الدعاوي الكيدية بين الناس، الأمر الذي يؤدي إلى إشغال القضاء، وضعف الإنجاز، وتطويل مدة التقاضي التي يشكو منها بعض الناس، كذلك حل بعض القضايا بين أطراف الدعوة ودياً دون إعلام الجهة الناظرة في الدعوة، أو غياب أحد أطراف الدعوة، مما يسبب خللاً في جدول مواعيد الدعاوي لدى القاضي، فبالرغم من نقص عدد القضاة في مواجهة الكم الكثير من القضايا أمام المحاكم العامة والمحاكم الإدارية، إلاّ أنّ من يرتاد المحاكم وأخص المحكمة العامة بالرياض - ولو مرة واحدة -، يشعر بأن هذه المحكمة هي خلية نحل تتميّز بنزاهة وعدل ورقي في التعامل وسرعة في الإنجاز. ولا عجب في ذلك فهي النبراس الذي يزيح ظلمات الظلم حتى يقيموا العدل على الأرض. ومن يرى بطء تنفيذ الأحكام، قد يظن أن الصورة قاتمة، لكن المتأمل وصاحب النظرة الثاقبة، يرى بعين البصيرة عديداً من الإيجابيات التي بها تكتمل الصورة، فحكمة وتروٍّ وتدرُّج وتخطيط. حينها عرفت أنّ هذا هو النظام الجديد للقضاء، والذي يسعى لتسهيل إجراءات القضاء وترسيخ مبدأ العدالة، ويضمن إن شاء الله نصرة المظلوم، وإيصال الحقوق لأصحابها، مع الالتزام بنصوص الشريعة، آخذين في الاعتبار إعادة ترتيب وتعديل البيت العدلي، ليتوافق مع زيادة السكان مما يستدعي دعم المحاكم بالكوادر العالية، والسرعة في تخصيص المحاكم المعتمدة في نظام القضاء الجديد ليواكب ذلك كثرة القضايا ومستجدات العصر، وهذا يعطي ميزة جديدة للقضاء في المملكة. ويكفي أنّ أبواب مسؤولينا مفتوحة أمام كل من يسدي فكرة من شأنها أن تساهم في ازدياد تطور القضاء، وأن صفحات صحفنا تنتظر الأقلام الغيورة على هذا الوطن المعطاء. ولا نشك لحظة واحدة، في أنّ عيون مسؤولينا لا تغفل عن تطور البلاد في شتى الميادين، ونخص بالذِّكر في هذا المقام، الدعم السخي الذي قدمه خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الذي يقدّر بنحو سبعة مليارات ريال لتطوير القضاء حتى يرقى إلى مصاف الدول المتقدمة. وإن وضعنا قضاءنا في الميزان، فسنجده إن شاء الله بخير ويسير بخطى حثيثة.