بعد أن افترسوا القارة السمراء, أسراب من صناديق التحوط الجارحة تغزو منطقتنا الخليجية. عندما يعلن ربان السفينة أن باخرته ستغرق يبدأ الجميع بسماع المقولة الخالدة: «انجوا بأرواحكم» ! في لحظة اليأس هذه تخرج علينا «أسراب» من المستثمرين الذين يرون التفاؤل ينبثق من هذا الموقف الكئيب القاتم. فبدلا من «السفينة» التي على وشك أن تغرق, يحل «الدين الإسلامي» محلها عندما تظهر بوادر التخلف عن السداد من قبل مؤسسات المال الخليجية. يطلق الغربيون على هؤلاء المستثمرين ب ( Vultures) أي العقبان. وهي طيور محتقرة في العديد من الثقافات. فهي لا تقتنص فريستها بمخالبها بل تتغذى على الجيف اليابسة. وهذه الجوارح تحوم حول الحيوانات المشرفة على الموت من أجل تقطيعها إربا عند مفارقتها للحياة. وللأسف فقد وصلت أسراب الجوارح هذه نحو شواطئ خليجينا بعد أن افترست لحوم القارة السمراء التي تأن تحت وطأة الفقر. وها هم الآن يكسبون أولا جولاتهم مع إحدى الشركات الإماراتية ويستهدفون الآن بنك أركبيتا الإسلامي. فصناديق التحوط هذه اشترت ديون أركبيتا بثمن زهيد وتطالب الآن بسداد كامل القيمة الإسمية شاملة الدفعات الدورية وأتعاب المحامين. ونظرا لحداثة مواجهة منطقتنا مع هذه الطبقة من المستثمرين الغربيين الذين يديرون «صناديق العقبان», علينا أن نقدم لمحة تاريخية عنهم لنعرف متانة قوة الخصم الذي انتهى المطاف بأحد بنوكنا الإسلامية الصغيرة إلى مواجهته. عالم العُقبان يقف وراء «صناديق العقبان» شركات الأسهم الخاصة (Private Equity ) أو صناديق التحوط. وهي تستثمر بديون المؤسسة التي تعاني من متاعب مالية وعلى وشك التعثر. ولا تتوقف عملية الاستهداف على الشركات فقط بل تمتد لدول إفريقية مثل السودان وإثيوبيا والكاميرون. تخيلوا هذا الموقف: عندما تفشل إحدى الدول الإفريقية التي تعيش تحت الفقر المدقع في سداد التزاماتها الشهرية, يقوم الدائنون (في العادة بنك أو دولة أخرى) بمحاولة أخيرة لتحقيق الربح. فيبيعون ديون هذه الدولة التي مزقتها الحروب والفوضى بعدة بنسات (هللات) في محاولة منهم بالخروج بأقل الخسائر. الذين يتخصصون في استغلال مصائب الغير نطلق عليهم لقب «صناديق العقبان». فهم لا يبالون بديانة تلك الدول أو الحالة المعيشية المزرية لأفرادها. فهؤلاء المستثمرون يراهنون أن كبار الدائنين (مثل صندوق النقد الدولي) سيلغي ديون هذه الدول الفقيرة. حينها سيستغل هؤلاء المستثمرين ذلك الموقف الدولي عبر مقاضاة تلك الدول الإفريقية في المحاكم ليستعيدوا القيمة الإسمية للدين فضلا عن أتعاب المحامين وفوق كل هذا « الفائدة» الربوية. ما الضير في ذلك ؟ تلك الدول الإفريقية الفقيرة التي يموت أفرادها يوميا بسبب عدم حصولهم على المياه الصالحة للشرب لديهم أمور بالغة الأهمية بدلا من توزيع مصروفات شعبهم على سرب العقبان هذا. وساهم هذا التصرف اللا إنساني في ترويع المستثمرين الأجانب الذين يرغبون بالاستثمار في تلك البلدان. فهم قلقون من أن يتم استهدافهم من قبل هذه الصناديق الجارحة عندما يدخلون في مشاريع مشتركة مع الحكومة. فقد بلغت الجرأة بأحد الصناديق (إف جي هيمسفير) على سبيل المثال بالسعي نحو» اقتناص» السفارة الكنغولية بواشنطن من أجل بيعها وتحصيل ما دفعوه من جراء شراء دين هذه الدولة الإفريقية. جيمس بوند يتدخل ؟ وعلى طريقة الشخصية الخيالية للجاسوس البريطاني الشهير (جيمس بوند) يخرج علينا مستثمر أمريكي يطلق على نفسه «الإصبع الذهبي» (Goldfinger). وشخصية «الإصبع الذهبي» هي إحدى الشخصيات الشريرة في سلسلة أفلام ( 007). فمايكل شيهان يُحول أي شيْء تلمسه أصابعه إلى ذهب. والحمد لله أن صندوق «العقبان» الذي يديره شيهان لم يشتري من ديون أركبيتا الإسلامية. فشيهان هذا أو «الإصبع الذهبي» كما يحلو أن يسمي نفسه حوُل ديون زامبيا من هللات إلى ذهب ! كيف ؟ في 1979 قامت الحكومة الزامبية «المسكينة» بشراء جرارات زراعية لحراثة أراضيها وإطعام شعبها. وساهمت تلك الجرارات الرومانية الصنع في إطعام الشعب الجائع. ولكن الدولة الأوربية تورطت عندما علمت أن الدولة الإفريقية أصبحت عاجزة عن سداد ثمن تلك الجرارات. عندها تفاوضت الحكومتان وأظهرت رومانيا بعض «العاطفة» التي لم تكن لوجه الله نحو الشعب الإفريقي الجائع. فوافقت رومانيا «مبدئيا» على تخفيض حجم الدين والقبول بأقل الخسائر وهو سداد 3 مليون دولار. فجأة وبدون مقدمات يظهر الصندوق الجارح للإصبع الذهبي ويشتري ديون زامبيا من الحكومة الرومانية التي أخلفت وعدها!. بعد تلك الحادثة بثلاثة عقود ينمو إلى علم «شيهان» أن الوضع المادي لزامبيا بدأ في التحسن. فماذا يفعل؟ يرفع دعوى قضائية يطالب فيها بسداد الدولة الإفريقية 55 مليون دولار (بدلا من 3 مليون) شاملة أتعاب المحامين والفوائد التي تضاعفت على مر العقود والسنوات. لينتهي المطاف بالقاضي البريطاني بوصف «شيهان» بامتلاكه طمعا وجشعا زائدا عن الحد. وبرر القاضي حكمه بدفع زامبيا 15 مليون دولار بأنه «خطأ من الناحية الأخلاقية إلا أنه صائب من ناحية قانونية». غزو أمريكا اللاتينية حتى القارة التي تعد مرتعا لكرة القدم لم تسلم من مخالب هذه الجوارح. فهذا «باول سينقر», الأب الروحي الذي هندس هذا النوع من الصناديق, يشتري ديون دولة البيرو ب11 مليون دولار. ليهدد بعدها بجر البلد التي يقطنها 30 مليون نسمة نحو الإفلاس. لينجح هذا الملياردير في تهديده ويحصل على 58 مليون دولار. ولم ينتهي جشع هذا المستثمر عند هذا الحد بل ذهب لمقاضاة دولة الكونقو مطالبا بالحصول على 400 مليون دولار لدين اشتراه ب10 مليون !! ولحسن الحظ فلقد استيقظت ضمائر الحكومات الغربية وسنت قوانين تمنع فيه صناديق «العقبان» من استغلال قوانينها لملاحقة تلك الدول الفقيرة. وللأسف وجدت تلك الصناديق فجوة قانونية لصالحهم في دول الكاريبي التي تطبق القانون البريطاني. ولهذا يضع مساهمو بنك أركبيتا أيديهم على قلوبهم وهم يشاهدون صناديق التحوط الأربعة التي اشترت دين البنك الإسلامي تحاول نقل القضية من الولاياتالمتحدة إلى جزيرة كايمان الكاريبية. [email protected] * متخصص في هيكلة الصكوك.. وخبير مالية إسلامية لمجموعة «أدكوم آكادمي» المصرفية في الولاياتالمتحدة الامريكية