ما زالت المنطقة التاريخية بمحافظة جدة, محافظة على مظاهر الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت وما زالت تشتهر بها عبر تاريخها الممتد لأكثر من 400 عام خصوصا في مواسم الأعياد كالتواصل بين الجيران ومركاز العمدة والبسطات الموسمية التي أصبحت عادة تجذب أهالي وزار جدة. ورصد تقرير ل (واس) أقدم أحياء المنطقة التي تشتهر بها كحارة الشام والمظلوم والبحر واليمن هذه المظاهر وتعرفت من خلال سكانها على أساليب المعيشة التي كانت تتميز بها المنطقة التي يحرص الناس بمختلف جنسياتهم على التبضع من أسواقها كسوق العلوي والبدو والندى والخاسيكة التي تعد بمثابة الكرنفال السنوي للبسطات الشعبية التي تقود المشاهد إلى عصور قديمة لعروس البحر الأحمر وتعد تراث المنطقة الأصيل الذي يحرص على متابعته الزوار من داخل المملكة وخارجها. وعدّ عمدة حي الشام والمظلوم ملاك باعيسى المنطقة التاريخية قلب جدة النابض بالحضارة والتراث, مشيراً إلى أن حارة المظلوم تضم أقدم مكان للترفيه في المملكة «برحة العيدروس», مبينا أن البرحة التي يعود تاريخها لأكثر من 70 عاما وتحيط بها المباني الأثرية القديمة التي تزينها «الرياشين الحجازية» تضم في أرجائها العديد من ألعاب الأطفال التراثية التي يتم تحريكها يدوياً. وتتناثر على ضفاف البرحة العديد من البسطات الخاصة التي تقدم الحلويات للزوار وسكان الحي, إلى جانب العديد من الأماكن التي تختص بعمل المأكولات الشعبية وبعض أنواع الحلويات المشهورة. وبيّن باعيسى أن المنطقة التاريخية تتميز بمحافظتها على العادات وتقاليد الحياة الحجازية سواء خلال المواسم أو غيرها إضافة إلى تمثيلها للتراث الإنساني والموروث الثقافي الغني بالعادات والتقاليد, فشوارع وأحياء المنطقة تتناثر فيها مئات البسطات التي تبيع المأكولات الجداوية كالبليلة والكبدة المجهزة بالطريقة الجداوية إلى جانب المشروبات المبردة والمعدة بطرق تقليدية. من جانبه تحدث رحمه الله الخوتاني أحد أهالي المنطقة التاريخية القدامى قائلاً: إن سكان المنطقة يبلغ عددهم نحو 22 ألف نسمة, مبينا أن المنطقة كانت تضم وقت دخول الملك عبد العزيز لجدة 3300 بيت لم يتبق منها بشكله القديم سوى 150 مبنى. وأشار إلى أن العديد من أهالي المنطقة الذين انتقلوا إلى أحياء أخرى في جدة يحرصون كل رمضان وإطلالة عيد على زيارتها والمشاركة في مظاهر الفرح والسرور التي تعم المنطقة, ويتناولون أكلاتم القديمة التي كانوا يتناولها إبان سكنهم فيها. ورأى أن ما يميز المنطقة التاريخية الهندسة المعمارية القديمة لأبوابها ومساجدها التاريخية وأسواقها القديمة وأماكنها الأثرية التي تشتهر بأزقتها الضيقة والمتلاصقة. وبين الخوتاني أن المنطقة في السابق قسمت داخل سورها إلى أربعة أحياء أطلق عليها: حارات الشام والمظلوم والبحر واليمن سميت حسب مواقعها الجغرافية أو شهرتها بالأحداث التي مرت بها, لافتاً الانتباه إلى أن المنطقة عرفت بأسواقها كسوق السقا - سوق المجوهرات - والندى والعلوي والخاسكية, بالإضافة لأسواق حارة البحر والنورية وشارع قابل التجاري وسوق باب شريف. واستذكر بيت نصيف التاريخي الذي يرجع تاريخ بنائه لعام 1872م واستخدم فيه حجر الكاشور والمنقب الجيري المجلوب من شاطئ البحر الأحمر (حجر رملي هش يحافظ على المنزل من البرودة والحرارة ويمتص الرطوبة ويستخدم معه بياض المصيص الجيري لكي يمنع تآكل الحجر الجيري بسبب الرطوبة طوال العام), إلى جانب استخدام الرواشين للسقف وتزيينه بالزخارف والنقوش في فتحات الشبابيك وواجهات الأبواب. وأكد سالم عبيد القرشي أحد سكان المنطقة التاريخية بجدة القدامى أن استقبال العيد في جدة في الماضي كان يغلب عليه طابع الفرح والسرور والحرص على التسامح بين أهل الحي بمبادرة من عمد وأهالي الحي, إلى جانب ترديد بعض الأهازيج التراثية التي تتغنى بها أحياء جدة القديمة وتختلف من حي إلى آخر وتستمر حتى ساعات الفجر الأولى ابتهاجاً بقدوم العيد السعيد, مشيراً إلى أن ما يميز المنطقة التاريخية في العيد قديماً هو صباح يوم العيد والاستعداد لإقامة صلاة العيد في الأماكن التي خصصت لهذا الغرض في أحياء جدة القديمة وما يطلق ويتعارف عليه حتى الآن ب «المشهد» حيث يتم التجهيز للصلاة ورحلة المعايدة مبكراً وذلك بالملبوسات وينتشر بعد ذلك الأطفال بملابسهم الملونة فيملؤون الطرقات ركضاً وغناءً إلى حيث تقام مراجيح العيد في بعض برحات جدة ومن أشهرها برحة «العيدروس» وبرحة «المظلوم» وبرحة «الشام». وأفاد حسن أبو نادر من مرتادي المنطقة التاريخية أن من مظاهر العيد في القدم بالمنطقة أنه كان حينما يدخل وقت صلاة العشاء يسير «المسحراتي» في حارة المظلوم حاملاً طبلته جاراً حماره المزيّن بنقوش من الحناء إضافة إلى الخرجة الخشبية التي تعلو ظهره ويتبعه ابنه الصغير إما راكباً على ظهر الحمار أو ماشياً إلى جانبه ويبدأ بدطبلته قائلاً «من العايدين.. من الفايزين فلان مسّاك الله بالخير، مسّاك الله بالنعيم» وحينها يعرف الناس أن شهر رمضان انقضى وجاء عيد الفطر فتبدأ نساء الدار بتجهيز الهدايا التي يقدمنها للمسحراتي من الأرز والشاي والسكر والملابس ويصعد ابنه الصغير إليهن ليعود محملاً بتلك الهدايا ويضعها على الخرجة الشبيهة بالصندوق الخشبي وبعدها ينهي سلامه لأهل الدار قائلاً: «أعادكم الله في كل عام يا أهل فلان الفلاني» وفي نفس الوقت كان مسحراتي كل حي يزاول عمله مهنئاً أهل الحي بالعيد الذي كان يبدأ وينتهي بأهزوجة يرددها أهالي الحي من الصغار والكبار كل من في جدة كان يغني ويرقص رقصة العيد. وعرف الأهزوجة بأنها جملة غنائية مؤلفة ومتداولة بين الناس من جيل لآخر ومن المعلوم أن أهل جدة يحبون الفن والجمال والإبداع فالأهازيج متعددة منها ما يقال في المناسبات فقط ومن أشهر ما كان يردده الأطفال «حدارجة مدارجة، من كل عين سارجة، يا رايحين الحاضرة خذوا معاكم بقرة، تحلب وتسقيني، صيني على صيني، والرب يعطيني» وقد ارتبط البحارة بتلك الأهازيج بطريقة غير مباشرة وأكثر من تفنن وأبدع في الأهازيج هم البحارة وكانت الألعاب التي تنصب في العيد كالأراجيح والصناديق تصنع من خشب المراكب الشراعية وقوارب الصيد وكان الأطفال والصبيان يلعبون بها وهم يتغنون بأهازيج العيد وكان بائعو الطبل والدفوف يجاورون تلك الألعاب إضافة إلى جلوس عازفي «السمسمية» وهم من البحارة في نفس المكان وهكذا تجتمع كل الأحاسيس المتناغمة لتولد الأهازيج. وأبرز سامي سلامة من قاطني المنطقة التاريخية سابقاً الأهازيج التي كانت تتردد في الأعياد أثناء اللعب بالمزمار والرقص على الدفوف ك «يا رب تنصر ملكنا، تجعل له خيمة مظلة، واحفظ ولي عهده، واحفظ وطنّا», لافتا إلى أن المزمار من أشهر ألوان الفنون ليس على مستوى جدة فحسب ولكن على مستوى مدن الحجاز بأكملها فهو فن يجمع بين الرقص والغناء والطبول.. يلتف فيه المشاركون على شكل دائرة تتوسطها شعلة الحطب التي يدور حولها الراقصون في ثنائيات منتظمة وهم يحملون العصي الغليظة بينما ينهمك الجميع في ترديد ما يُسمى ب «الزومال». وقال: في الليلة الأخيرة من رمضان وبعد ثبوت الرؤية وإطلاق المدفع إيذاناً بدخول عيد الفطر المبارك يردد الأطفال أغاني مؤثرة في توديع الشهر الكريم، وسؤال الله أن يعيده عليهم، وكان العيد في جدة ينصب في ثلاث حواري: حارة ايمن، حارة المظلوم، وحارة الشام، وكان يبدأ صباحاً ويبلغ ذروته بعد العصر ويمتد حتى وقت العشاء بعكس ما هو عليه الحال اليوم حيث تبدأ الملاهي في العيد ذروتها بعد العشاء وهناك ألعاب الألواح والشبرية والصناديق، كما كانت بعض الأسر في بداية الستينيات والسبعينيات الميلادية تخرج في الأعياد والإجازات الأسبوعية للنزهة في «غبة عشرة» وهي عبارة عن تل مرتفع يطل على البحر شمال غرب التحلية حالياً على كورنيش جدة. وأضاف يقول: كان تحت كل منزل حمَّال يحمل عصا غليظة يقوم بنفض الغبار والأتربة عن المفارش ويعيدها نظيفة إلى أصحابها مع قرب العيد. وكان اللجوء إلى الحمال لتنظيف السجاد هو البديل الموضوعي لمكانس الكهرباء والغسالات الثقيلة غير المتوافرة في ذلك الوقت. ولفت محمد بن ناصر أحمد أن العيد في الماضي كان موسما للقاء الأقارب والإفطار الجماعي بينهم, حيث يحرص كل بيت على تجهيز قارورة عطر وورقة وقلم ليسجل فيها الزائرون أسماءهم حال غياب الأسر في زيارات أخرى. وأكد مدير بلدية المنطقة التاريخية المهندس سامي نوّار أن المنطقة التاريخية تتميز بنشاط الحركة في الشوارع والميادين في موسم العيد جراء كثر لقاءات السمر للاحتفاء بهذه المناسبة, مبيناً أن المنطقة التاريخية لا ينقطع عنها الزوار في مختلف المواسم وتقام بها الفعاليات والأنشطة الثقافية التي تهدف لإحياء التراث الثقافي لمدينة جدة الذي كانت تقوم عليه المدينة في السابق. وأفاد أن أمانة محافظة جدة تحرص من خلال بلدية المنطقة التاريخية على تعريف أبناء الجيل الحالي بتراث جدة القديمة وبالعادات والتقاليد المعروفة في منطقة الحجاز بالإضافة إلى تقديم ترفيه تراثي للجميع يتناسب مع المنطقة إلى جانب إعادتها أمام الزوار في هذه الأيام.