إلى أين يتجه الشرق الأوسط؟ إلى أين سيصل بعد عقد أو عقدين من الآن؟ رغم أن أغلب التعليقات تميل إلى القلق من الأحداث الأخيرة اليوم (هل سيسقط بشار الأسد؟ هل حزب الله وراء تفجير بلغاريا؟ هل ستكون هناك حرب مع إيران؟ هل مات حل القضية الفلسطينية على أساس دولتين؟ إلى آخره)، فإن أريد العودة إلى الوراء والتساؤل عن التأثيرات الأوسع لهذه الأحداث المتنوّعة. هناك 3 سيناريوهات للشرق الأوسط يتم النظر إليها بصورة أساسية من منظور المصالح الأمريكية وهي (الطيب والشرس والقبيح) وهو اسم أحد أشهر أفلام الغرب الأمريكي في الستينيات بطولة النجم كلينت ايستود ولي مارفن. السيناريو المتفائل رغم أن الطريق ستكون به العثرات لفترة من الوقت فإن الاضطرابات العديدة التي جرت في المنطقة ويطلق عليها اسم «الربيع العربي» تمثّل نهاية لمرحلة من الجمود الإقليمي. من هذا المنظور فإن العالم العربي قبع على مدى عقود عديدة تحت قيادة فاسدة لسلسلة من الحكام الطغاة المستبدين الذين كانوا يجيدون التشبث بالسلطة وليس تنمية مجتمعاتهم. وقد عانى التعليم والبحث العلمي والتنمية وحقوق الإنسان نتيجة هذا الحكم المستبد. كما أن هذه الظروف غذت المشاعر المعادية لأمريكا لدى الشعوب العربية وأشعلت التوترات الإقليمية في الوقت الذي كانت النخبة الحاكمة تستخدم شعار «الإمبريالية الغربية» أو الاستعمار الغربي والاحتلال الإسرائيلي ومعاناة الشعب الفلسطيني لكي تبعد انتباه شعوبها عن فشلها في إدارة شؤون البلاد بصورة رشيدة. ولكن وفقاً لهذا السيناريو فإن عهد الفساد والاستبداد شارف على الانتهاء. فالأسد سيسقط بنفس طريقة سقوط الرئيس الليبي معمر القذافي وسيمثّل رحيل الأسد ضربة موجعة لإيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس، أو الدول التي كانت تمثّل المعسكر المناوئ للغرب في المنطقة. كما أن إيران عندما تصبح معزولة وضعيفة ستختار الرضوخ لمطالب الغرب ونظام الحكم نفسه في طهران سينهار بمرور الوقت. ومع تجسد التغيّرات السياسية في صورة حكومات خاضعة للمحاسبة وتستجيب لرغبات الشعوب في مختلف أنحاء المنطقة ستتفجر طاقات هذه المجتمعات لتبدأ عملية تنمية اقتصادية واسعة النطاق. وبنفس القدر من الأهمية فإن ازدهار الديمقراطية أو (أي شيء قريب منها) سيقلص الخلافات الحالية بين الولاياتالمتحدة وبعض هذه المجتمعات، حيث سيركز مواطنو هذه المجتمعات على الحصول على تعليم أفضل وتكوين الثروة والحياة الكريمة بدلاً من الانشغال بالقضايا التي لا يراد من إثارتها إلا تشتيت انتباه الشعوب بعيداً عن فشل حكوماتها مثل قضية تحرير مرتفعات الجولان السورية والضفة الغربية وقطاع غزة أو الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة! هذه الرؤية تتسق تماماً مع رؤية الليبراليين الأمريكيين التقليديين للعلاقات الدولية والتي تسيطر على طريقة تفكير صنَّاع السياسة الأمريكية بشأن السياسة الخارجية. النظريات الليبرالية في العلاقات الدولية تقول إن أساليب السياسات الخارجية تتأثر بنمط الحكم ومدى الاستقلال الاقتصادي في أي دولة إلى جانب وجود مؤسسات عالمية قوية. ويميل الليبراليون إلى افتراض أن الإنسان يهتم غالباً بالرخاء المادي لنفسه. وعندما تصبح دول الشرق الأوسط مثلنا (نحن الأمريكيين) فإن تعارض المصالح بيننا وبينهم ستتراجع وستخبو المشاعر المناهضة لأمريكا وسيقل الاهتمام بامتلاك أسلحة الدمار الشمال لدى هذه الدول. وعندما تصبح هذه الدول أكثر ديمقراطية واندماجاً في الاقتصاد العالمي ستتخلى عن اعتراضاتها التي عفا عليها الزمن على وجود إسرائيل بينها وستصبح كل الأمور على ما يرام. كما يلاحظ أن هذه الرؤية تعني أيضاً أن برنامج المحافظين الجدد من أجل «التحول الإقليمي» كان فكرة صائبة وأن المشكلة كانت في الأشخاص الذين حاولوا تطبيقه لأنهم كانوا غير أكفاء وأن الوسيلة التي اختاروها لتطبيق هذه الفكرة سواء كانت القوة العسكرية أو التدخل الأمريكي المباشر كانت وسيلة خاطئة ببساطة. والحقيقة أن تبني الرئيس الأمريكي باراك أوباما «للربيع العربي» كان حذراً وغير ثابت دائماً. ولكن موقف أوباما كان محكوماً بنفس الهدف وأن طريقته أثبتت أنها أكثر فاعلية. في الواقع فإن الإدارة الأمريكية راهنت على أن هذه المرحلة من التاريخ ستمضي في اتجاه يقود إلى سياسات أكثر تعددية وتشاركية وإلى المزيد من المساواة بين الرجل والمرأة واحترام حقوق الإنسان وإلى تراجع كبير في كل من التوترات الإقليمية ومشاعر العداء لأمريكا بمرور الوقت. وربما يحتاج الأمر إلى عدة عقود لكي تتحقق هذه الرؤية المتفائلة، ولأن التغييرات الاجتماعية الكبرى تنطوي دائماً على فوضى كبيرة، فمن المؤكّد أنه ستكون هناك لحظات عصيبة في الطريق نحو التحول. ولكن يجب على كل الأمريكيين الانتظار حتى نهاية هذه المرحلة واستخدام كل ما لديهم من قوى لدفع هذه المجتمعات في الاتجاه الصحيح وإدارة الاضطرابات الحتمية لفترة زمنية أقل مما هو حادث الآن. بالطبع فإن الأمر سيكون جيداً إذا ما تحقق هذا المستقبل المأمول رغم أنه قد يشهد استمرار الفلسطينيين لجيل قادم وربما جيلين قادمين يعيشون حياة الفقر بدون دولة لهم. وللأسف هذا السيناريو ليس الوحيد المطروح في الأفق. السيناريو الشرس في هذا التصور للمستقبل ستمضي التغييرات التي أطلقها «الربيع العربي» قدماً وستفشل محاولات إعادة فرض النظام القديم (كما يحاول ذلك المجلس العسكري في مصر) بشكل نهائي. ليس هذا فحسب، بل إنه ستظهر أنظمة سياسية قائمة على المشاركة والتعددية مع مزيد من الانفتاح وهو ما يفتح الباب أمام تطورات أكثر إيجابية مثل تحسين التعليم وتوسيع نطاقه وتسريع وتيرة التنمية الاقتصادية وتعزيز الوحدة الوطنية في الكثير من هذه المجتمعات. باختصار سيتواصل الحشد السياسي والاجتماعي ويزداد عمقاً وستنجح الحكومات في إقامة مؤسسات أكثر فاعلية وانفتاحاً. ولكن في هذا السيناريو، لن تؤدي هذه التحولات إلى جعل الشرق الأوسط منطقة ليبرالية هادئة أو صورة شرق أوسطية للاتحاد الأوروبي. فمع عودة الديناميكية السياسية إلى المنطقة، فإن هذا السيناريو يعني ظهور حكومات أكثر استجابة للمشاعر الشعبية وأكثر قدرة على خدمة مصالحها الوطنية (كما تحددها المعتقدات العامة للشعوب) على المسرح العالمي. ولما كانت بعض هذه المشاعر الشعبية تتعارض تماماً مع الكثير من السياسات الأمريكية الثابتة، فإن تحول العالم العربي إلى كيان قوي وله قدرة على الحشد السياسي يمكن أن يكون صداعاً حقيقياً في رأس واشنطن. والتاريخ المعاصر يقدّم لنا العديد من التحذيرات من هذا السيناريو. فتركيا تحت حكم حزب الحرية والعدالة ذي المرجعية الإسلامية حققت نمواً اقتصادياً مذهلاً في السنوات الأخيرة على عكس الحكومات العسكرية التي سبقته لكنها أصبحت حليفاً أقل طاعة للولايات المتحدة وأصبحت قوة أكثر استقلالاً في المنطقة. ورغم أن المصالح الأمريكية والتركية متوافقة في أغلب الأحوال فإنها ليست كذلك دائماً. وهذا يمكن أن يكون الوضع بالنسبة لمصر في عصر ما بعد حسني مبارك. وهنا ربما يبدو النظر إلى ما حدث مع الصين مفيداً. فلو أن ماو تسي تونج زعيم الثورة الشيوعية في الصين ظل حياً حتى الآن، لظلت الصين مكبلة باقتصادها الفاشل. ولكن تبني نظام اقتصاد السوق انتشل ملايين الصينيين من الفقر، في الوقت الذي منح بكين القدرة على تحدي القيادة الأمريكية في العديد من القضايا الدولية وربما يأتي اليوم الذي تصبح فيه الصين «منافساً نداً» للولايات المتحدة. من منظور أمريكي أناني يمكن القول إنه كان من الأفضل للولايات المتحدة لو لم تتم «التحديثات الأربعة» في الصين ولو أن الأخيرة ظلت ضعيفة ومتخلفة اقتصادياً. بنفس المنطق فإن الفشل العربي كان أحد الأسباب الرئيسة لنجاح الولاياتالمتحدة وإسرائيل في السيطرة على الشرق الأوسط طوال العقود الأربعة الماضية. ولا يجب أن نفترض بشكل أعمى أنه عند ما يصبح العالم العربي أقوى وأكثر كفاءة سيظل حليفاً مطيعاً لواشنطن. إذا كان السيناريو الطيب يفترض أن ظهور سياسات أكثر تشاركية وديمقراطية تعددية سيزيل فيما بعد تعارض المصالح القائم حالياً بين دول المنطقة وبينها وبين الولاياتالمتحدة. ولكن هناك أسباب وجيهة تجعلنا نشكك في هذا الاعتقاد المتفائل. فهناك صراع السنة والشيعة القائم منذ قرون ومن المحتمل أن يستمر. وما زال الفلسطينيون يضغطون من أجل قيام دولتهم أو الحصول على حقوق التصويت الكاملة داخل دولة واحدة تضمهم واليهود على أرض فلسطين التاريخية. وسيحتشد العرب دعماً للمطالب الفلسطينية سواء لأن السياسيين الديمقراطيين العرب سيستغلونها لزيادة شعبيتهم في الداخل كما يفعل رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان.كما أن أي حكومة ديمقراطية في سوريا ستظل تطالب باستعادة الجولان من إسرائيل وكذلك فإن أي حكومة ديمقراطية في إيران قد تتمسك ببرنامجها النووي للحصول على الأسلحة تماماً كما كان يريد شاه إيران حليف الولاياتالمتحدة الراحل وكما هو الحال بالنسبة لإسرائيل (الديمقراطية النووية). باختصار يجب علينا أن نكون حذرين فيما نأمل من هذا السيناريو. فالحكام المستبدون مثل حسني مبارك يمكنهم تجاهل مشاعر شعوبهم و الانحياز الكامل إلى جانب واشنطن ولكن ربما لن يكون الأمر بهذه السهولة في حالة الحكومات التي تعتمد على الدعم الشعبي. وافتراض أن التغيير السياسي في العالم العربي هو أمر جيد بالنسبة للولايات المتحدة يقوم على أساس الاعتقاد بأن «كل الأمور الجيدة تسير معاً»: فالتغيير السياسي سيعزّز فيما بعد التنمية الاقتصادية ويهدئ النزاعات السياسية القائمة. ولكن للأسف فإن التاريخ يذكّرنا بأنه كلما ازدادت الدول ثراءً وقوة، فإنها تصبح أكثر استعداداً للدفاع عن مصالحها بالمفاهيم الأوسع. ويمكن أن يصبح هذا مشكلة كبرى بالنسبة للولايات المتحدة في ضوء الرفض الشعبي للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وتجذر هذه الاتجاهات السلبية تجاه واشنطن لدى الشعوب العربية. السيناريو القبيح هناك سيناريو ثالث وهو السيناريو الذي نراه بالفعل في العراق ولبنان وربما نراه في سوريا. في هذا التصور للمستقبل فإن الربيع العربي ينجح في الإطاحة بعدد من الأنظمة الفاسدة لكنه لا ينجح في إقامة نظم جديدة مستقرة. وبدلاً من قيام هذه الأنظمة المستقلة والقوية تتحول الدولة إلى مجموعة من الطوائف العرقية أو الدينية أو المذهبية وهو ما يعطي للتنظيمات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة فرصة جيدة لاستقطاب أتباع جدد وهو ما يفجر دوامة لا تتوقف من العنف. وغني عن القول إن هذا السيناريو الأسود يعني أن المنطقة ستظل في حالة فوضى وانقسام لسنوات عديدة مقبلة. ولن تحدث النهضة الاقتصادية وستؤدي الاضطرابات السياسية إلى هروب الاستثمارات والسياح في الوقت الذي ستوظف فيه القوى المحلية موارد البلاد لمحاربة بعضها البعض بدلاً من إعادة بناء الدولة. كما ستجد القوى الخارجية إغراءً قوياً لكي تتدخل بطرق عديدة وهو ما سيؤدي إلى حروب بالوكالة في تلك الدول المفككة مما يزيد مخاطر اتساع نطاق الصراعات المحلية وتحولها إلى حروب إقليمية. وفي ظل حقيقة أن منطقة الخليج ما زالت مصدراً رئيسياً للنفط في العالم بغض النظر عن كميات الغاز الطبيعي الذي بدأت الولاياتالمتحدة تحصل عليه من خلال تقنية التكسير الهديروليكي، فإن استمرار الاضطرابات الإقليمية يمكن أن يؤثّر بشدة وبشكل ضار على الاقتصاد العالمي. هذا السيناريو ليس من الأنباء السارة بالنسبة للولايات المتحدة أيضاً. فربما يكون من الذكاء بالنسبة لواشنطن أن تظل بعيداً ًعن هذه المذبحة ولكن سيكون من الصعب على السياسيين الأمريكيين المؤمنين بالتدخل في الشؤون الدولية وكذلك في ضوء الضغوط التي ستتعرض لها واشنطن أن تتخلى عن حلفائها الإقليميين مثل إسرائيل. وإذا كان الماضي يعطينا أي إرشاد فإننا لا يمكن أن نتوقع أن تساعدنا روسيا أو الصين أو الدول الأوروبية في تهدئة الأمور في المنطقة وإنما سيتركون العم سام يتحمّل عبء إدارة هذه الأزمات بمفرده. لذلك فمثل هذا السيناريو لن يعني فقط مشكلات كثيرة لشعوب الشرق الأوسط وإنما يعني أيضاً صداعاً شديداً للولايات المتحدة أيضاً. وأخيراً أي من هذه السيناريوهات الثلاثة أقوى احتمالاً؟ أنا أميل إلى السيناريو الثاني، لأنني لا أعتقد أن الربيع العربي سيفشل لتعود الأنظمة القمعية إلى الحكم. كما أنني لا أعتقد أن الاضطرابات المستمرة في أماكن مثل سوريا ستنتشر إلى أماكن أخرى في المنطقة. ولكن هذه الاضطرابات ليست أكثر من عثرة على الطريق. بالطبع فهذه السيناريوهات الثلاثة ليست الوحيدة التي يمكن تخيلها. ولكنها تساعد في ضوء الفوضى الحالية في الشرق الأوسط لإيجاد إطار منظور يمكن التعامل معه. كما أنها تساعد في تحديد المنطق الرئيسي الذي تستند إليه السياسة الأمريكية الحالية. وغني عن القول إنه سيكون من الأفضل تحقق السيناريو الأول. كما أنني سأشعر بالمفاجأة أكثر إذا حدث هذا. (*) أستاذ الشؤون الدولية بكلية جون كيندي - للدراسات الحكومة في جامعة هارفارد الأمريكية (فورين بوليسي) الأمريكية