عكست حفلة افتتاح دورة الألعاب الأولمبية 2012 في لندن التاريخ المشرق لبريطانيا وتجاهلت، بالطبع، الجانب المظلم. بريطانيا ليست دولة هامشية، فقد كانت الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. وما من أحد لديه إلمام بسيط بالتاريخ إلا ويعرف أن هذه البلد كانت حاضرة في كل الأحداث التي صنعت التاريخ خلال القرون الماضية، وخصوصاً منذ القرن السابع عشر، وبعد ذلك الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. ويعرف العرب أن الكثير من المشاكل التي يعانون منها اليوم هي ذات علاقة ببريطانيا وفي طليعتها اتفاقية سايكس بيكو التي أمعنت في تمزيق الوطن العربي ووعد بلفور الذي صنع الجرح النازف في الجسد العربي حتى اليوم بتسهيل الاستيطان الصهيوني في فلسطين وإقامة دولة إسرائيل. وفي كل أنحاء العالم جروحٌ دامية صنعها الاستعمار البريطاني. هذه الصفحات الكالحة من التاريخ البريطاني لا يمكن أن تنساها الشعوب التي كانت ضحية للاستعمار البريطاني. ومع إعجابي الشديد بالإنجازات البريطانية التي خدمت الإنسانية في مختلف المجالات مثل الطب والعلوم والصناعة وغيرها، فلا يمكن أن تغيب عن الذهن الصورة الأخرى التي لم نَرَها في الاستعراض التاريخي المدهش الذي تم تقديمه في حفل انطلاق الألعاب الأولمبية في لندن. ولكن لا أحد يتوقع، خصوصاً في مناسبة كهذه، أن يرى تلك الصورة حتى مع حرص المُنَظِّمين للحفل على عرض مزيج بشري «بريطاني» يعكس الأعراق والأجناس التي كانت ذات يوم من مكونات الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها. ومع أخذ هذه الملاحظة في الحسبان، فقد كان حفل انطلاق الألعاب الأولمبية مميزاً، فهو لم يعتمد على تقنيات الإبهار الاستعراضي التي يمكن تحقيقها برصد ميزانية كافية يمكن لأي دولة تملك المال أن تقوم بها وإنما اعتمد على رصيد تاريخي عريض من الإنجازات البريطانية التي لم تتحقق في أي بلد آخر. لقد استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة التي فجَّرتْ الثورة الصناعية أن تحقق إنجازات وإسهامات خدمت البشرية في كل مكان. ولم تكن إنجازات بريطانيا تقتصر على الجانب العلمي وما حققته من اختراعات واكتشافات وإنما تضمنت أيضاً جوانب تتعلق بالممارسة البرلمانية وبالقوانين والنظم وبالأدب والموسيقى والرياضة وغيرها. ولذلك عندما تستعرض الأسماء البريطانية الكبيرة التي تركت بصماتها في المسيرة الإنسانية فلن تقف فقط عند عظماء المخترعين والمكتشفين وعلماء الفيزياء والفلك والكيمياء والطب وإنما أيضا كبار الأدباء والشعراء والروائيين والمسرحيين والموسيقيين والعلوم الإنسانية المختلفة. أظن أن فكرة منظمي الحفل في توظيف هذه الاستثنائية والخصوصية في الإنجاز الوطني ك «ثيمة» لفقرات الحفل هي فكرة موفقة. وقد سمعت من يقلل من مستوى حفل أولومبيات لندن بالمقارنة مع حفل أولومبيات بكين، لكنني أعتقد أن البريطانيين قدموا إبهاراً فريداً مستمداً - بشكل انتقائي - من الجانب المشرق في تاريخهم؛ وهذا إنجاز آخر. [email protected] ص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض