فقدت المملكة والعالمان العربي والاسلامي والإنسانية جمعاء واحدا من أهم أعمدة الحكم، قائد عرف بنفاذ البصيرة وسعة الصدر والحزم والعزم، لقد حزن الناس وأنا منهم كما يحزنون على خاصة أهلهم على فقدنا للأمير نايف بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية رحمه الله وأدخله فسيح جناته. لقد حز انتقاله إلى جوار ربه في نفوس الناس بعمق حبهم له، وما أعمق حب الناس للأمير نايف فهم فقدوا نايف بقدر ما كان موجودا في حياتهم خيرا وعطاء. إن الكتابة في رثاء الأمير نايف صعبة، لأنها تحرك نيران الفقد في النفس لأن الفقيد شخصية شامخة تتقاصر عنها الكلمات مهما تطاولت وتعجز الجمل عن إيفائها حقها مهما تجاسرت لأنها لا تستطيع أن تعبر عن مكانته، فالأمر أكبر من المقالات وأعمق من الكلمات فجرح الحزن في النفوس والقلوب عميق، فكم كان الرجل عظيماً، وإنساناً، وكم أن الفقد فادح ومؤلم ومحزن وجارح، فالخبر كان صاعقا، حتى اهتزت له نفوسنا، وحق لنفوسنا أن تهتز فالأمر جلل، وإن بكينا فما تغلى الدموع على مثل الأمير نايف وما أغلى دموع الرجال وأعزها. والله ما أعاد لنا شيئا من ثبات إلا قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران 185) ثم ترديدنا لقوله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (آل عمران 145)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصبر عند الصدمة الأولى)، وقول (لا حول ولا قوة إلا بالله). لقد مضى الأمير نايف إلى رحاب ربه وترك في النفوس حسرة حارقة ولوعة لا تنتهي، ولكنه مضى بجسده وترك في القلوب محبة عارمة، وفي النفوس ذكرى عطرة لا تمحوها الأيام والسنون فهو وإن غاب بجسده فإنه موجود بيننا بما خلف من مآثر لا تحصى وأيد بيضاء لا تخفى. إن ما أعطاه الأمير نايف لبلاده ولأمتيه الإسلامية والعربية بل والمجتمع الدولي أكبر من أن تستوعبه مقالات أو محاضرات أو كتب وأسفار، فقد كان رحمه الله يعمل بلا كلل ولا ملل ليل نهار وكأنه في سباق مع الزمن، ولا يعمل إلا المحكم من الأعمال، ولا يفعل إلا المتقن من الأفعال، ولهذا تقلد المناصب التي تحتاج إلى جهد خارق وإخلاص نادر، وصبر شديد، وفكر ثاقب. إن الأمير نايف رحمه الله كان يملك قلبا كبيرا وإنسانية فياضة وصبرا لا حدود له وبجانب قدراته الفائقة وعبقريته الوافرة ومواهبه الفريدة، كان يمتلك انسانية نادرة وقلباً محباً للخير سخر مواهبه لمنفعة الناس وأعمل عبقريته لإسعادهم، فكان خيراً على شعبه وبلده وأمته العربية والإسلامية والمجتمع الدولي، وكان بهذا التزاوج الموفق بين العبقرية والإنسانية نسيج وحده في عبقريته وعطائه، كما هو نسيج وحده في إنسانيته وعاطفته النبيلة. لقد كان نموذجا للرقة والصلابة يجمع بينهما في تناغم عجيب فريد فهو أرق من النسيم على الضعيف واليتيم والأرملة والمحتاج وأصلب من الفولاذ على أعداء البلاد والمتربصين بها، وفي مقدمتهم الفئة الضالة الذين تصدى لهم بكل حزم وقوة حتى قضى على الإرهاب والإرهابيين في مهدهم وجلب الأمن والاستقرار لبلاده والجزيرة العربية. لقدكان نسيج وحده في وطنيته فأعطى من جهده ما تنوء به العصبة أولو القوة من الرجال لا يكل ولا يتعب، وهذا حال الرجال أولي النفوس السامية والهمم العالية، والأمير نايف أرهق من حاول التشبه به وأنهك من حاول التطاول لشموخ قامته، لا تقصيراً من الرجال ولكن المرقى بعيد، لقد مضى الأمير الفارس نايف إلى جوار ربه وعزاؤنا أنه باق رمزا وحبا ونموذجا للوطني الصادق والمؤمن الكريم والجندي الجسور والإداري ورجل الأمن والسياسي المحنك. وبهذا البريق سيظل فقيد الوطن والأمة نايف حيا في النفوس وبذلك الوجود سيظل حبا لا يموت ليصدق عليه قول الشاعر: وقد مات قوم وما ماتت مآثرهم وعاش قوم وهم في الناس أموات لقد بلغ الأمير نايف مجدا لا يبلغه إلا من ملك نفسا كبيرة لا ترضى الا بأعالي الأمور وشوامخ القمم. وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد الأمير نايف من الرجال الذين يعشقون النجاح، ولذلك فإنه لا يقوم بعمل ما إلا ويبلغ به غاية النجاح، باذلاً في ذلك جهده ووقته، بل وصحته، فالنجاح عنده يعني أن يتسلح لذلك دائما في كل عمل يقوم به بفكر ثاقب وعقل راجح وبصيرة نافذة وإخلاص فريد ونفس سخية، ثم صبر لا يتحمله الا أصحاب العزائم القوية والقامات الصلبة ثم قبل ذلك وبعده توكل على الله الذي لا يضيع من توكل عليه ولا يخذله ولا يسلمه. إنه كان يعطي في المجالات الإنسانية - ويهتم اهتماماً شديداً بالأيتام والأرامل والمرضى، وهو يعمل يحتاج إلى قلب رقيق ونفس شفافة وهو في الوقت نفسه رجل الأمن من الطراز الأول قلب لا يتزحزح ولا يتراجع ولا يلين في وجه أعداء الأمن والاستقرار من الفئة الضالة فقلم أظافرهم وكفى الناس شرهم، ولعلنا نذكر قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله لقد قسوت في الله حتى أصبح قلبي كالحديد، وقد لنت في الله حتى أصبح قلبي كالزبدة). فالأمير نايف كلف خلال حياته المليئة بالإنجازات العديدة بمناصب مختلفة تحتاج إلى قدرات وخبرات نادرة، فقام بها على أحسن وجه وأكمله، فقد كلف بمناصب قيادية هامة في الحكم والإدارة فقام بها كأنه درس علم الإدارة وفنها وأنظمة الحكم في أرقى جامعات العالم، بل نبغ فيها أكثر ممن درسوا الإدارة وإدارة الأعمال ونظم الحكم وتخصصوا فيها، وبعض هذه المناصب كان يحتاج إلى دراسات عليا في العلوم الاستراتيجية والأمنية فتولاها وأدهش من تخصصوا فيها بأفكاره الرائعة وخططه المحكمة في جميع المناصب التي تولاها أثناء حياته التي كانت عامرة بالعطاء على مدى أكثر من ستة عقود. ففي عام 1371ه عيّنه والده الملك عبدالعزيز رحمه الله وكيلا لإمارة منطقة الرياض ثم أصبح في عام 1372 أميراً لمنطقة الرياض، وكان دوره بارزاً في تنظيم الإمارة وتطويرها وتأسيس إدارة حديثة عصرية، وفي عام 1390 أصبح نائبا لوزير الداخلية بمرتبة وزير ثم وزير دولة للشؤون الداخلية في عام 1394 وفي عام 1395 أصبح وزيرا للداخلية. وقد طبق الحسم في الحكم والإدارة دون تأخير أو تقصير، واستغل الزمن وحركته لأن الزمن يمثل نصف القيادة واستطاع أن يحقق تطورا سريعا في الإدارة فتحققت النتائج التي قصدها بالكم المطلوب والسرعة والزمن المستهدفين في وزارة يقع على عاتقها مسئوليات جسام تحتاج فعلاً لرجل في حزم الأمير نايف وعزمه وقوته وخبرته، يملك فلسفة واضحة متطورة ومتقدمة على عصرها في الحكم والإدارة، وأن بصماته لا تخفى على أحد في تلك الوزارة، فحفظ الأمن والاستقرار، وكان الأمير نايف بفكره الثاقب وحكمته وبعد نظره وخبراته الطويلة في ميدان الحكم والإدارة وحزمه وعزمه الأمير الذي حدد أهداف وزارته وقدم الحلول لكل الأحداث التي تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار بلاد الحرمين الشريفين فكانت النتائج باهرة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم!! وفي الثلاثين من ربيع الأول عام 1430ه اختاره خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية، وبعد انتقال الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى جوار ربه أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قراره الحكيم بتعيين أخيه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وليا للعهد نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية. ان المناصب الرفيعة التي تقلدها الأمير نايف والمسئوليات الجسام التي كان يتولاها ليصبح أحد عظماء الساسة وكبار القادة الذين يشار إليهم بالبنان، تلك المسؤوليات يصعب حصرها فقد كان صاحب قدرات فائقة ومواهب فريدة في عدد غير محدود من مناحي الحياة وشئونها وفي كل واحدة منها له فيها القدح المعلى فبالإضافة إلى ولاية العهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخلية، وكل واحدة من تلك المناصب الرفيعة اكبر من أختها في المهام والمسؤوليات فإن الأمير الهمام كان يرأس لجانا ومجالس عديدة، كما كان عضواً في عدد كبير من المجالس واللجان ومنها على سبيل المثال لا الحصر انه رحمه الله كان رئيس لجنة الحج العليا عام 1385ه، رئيس المجلس الأعلى للسياحة، رئيس المجلس الأعلى للإعلام عام 1401ه، رئيس الهيئة العليا للأمن الصناعي عام 1397ه، رئيس مجلس إدارة جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية عام 1397ه، الرئيس الفخري للجمعية السعودية الخيرية لرعاية الأسر السعودية في الخارج (أواصر)، الرئيس الفخري للجمعية السعودية للاعلام والاتصال عام 1421ه، رئيس مجلس إدارة صندوق التنمية البشرية عام 1421ه، رئيس مجلس القوى العاملة عام 1411ه الرئيس الفخري لمجلس وزراء الداخلية العرب عام 1404ه وغيرها. وهكذا ظل الأمير نايف يعطي كل جهده ووقته وخالص عاطفته ومواهبه لوطنه دون من ولا أذى، عطاء خالصا لا مقطوعا ولا ممنوعا، عطاء يعجز عنه العدد الكبير من الرجال، وتنوء به الجماعة من الناس. ولهذا كان يوم تشييع جنازته يوما مشهوداً لن تنساه المملكة والشعوب العربية والإسلامية وكل محب للخير والعدل والسلام فقد تقاطر الناس من كل فج لوداعه إلى مثواه الأخير في مقابر العدل في مكةالمكرمة قبلة الإسلام والمسلمين. وعزاؤنا في ميراث المروءات لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أمد الله في عمره وبارك فيه وألبسه ثوب الصحة والعافية، ولسمو الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع وسمو الأمير أحمد بن عبد العزيز وزير الداخلية والأسرة المالكة ولأنجاله وبناته الكرام وفي مقدمتهم سمو الأمير سعود وسمو الأمير محمد والشعب السعودي والأمتين العربية والإسلامية والمجتمع الدولي. ولله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بأجل مسمى، وإننا بقضاء الله راضون، ولما أصابنا محتسبون، ولا نقول الا ما يرضي الله عزَّ وجلَّ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ البقرة 156. (*) رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية [email protected] رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية