ما يحيرك في الكتابة عن الأمير سلطان- رحمه الله- هي بأي جانب من الجوانب تبدأ؟ فجوانب العظمة فيه كثيرة بحيث يعجزك الكتابة عنها كلها، وكل جانب فيها مشرق ورائع ومدهش وعظيم بحيث يصعب عليك أن تحدد بأيها تبدأ، فقد كان عالما يضج بالمواهب الفذة والقدرات النادرة، والعطاء الذي يكاد يصل حدود المستحيل. والأمير سلطان عظمته في تفرده، وفي عظمة عطائه - جودة وكثرة - فهو لا يرضى أن يعطي الكثير الغث، كما لا يرضى بعطاء القليل وإن كان (سميناً) (ثميناً)، فقد تعود الناس منه أن يعطي سيلاً من العطاء بغير غثاء فما كان يعطيه كثيرا دفاقاً ونقياً رقراقا، فعطاؤه جزيل وخير عطائه واصل وفير. ويظهر تفرد سلطان، في أنه كان يعطي في مجالات تبدو وكأنها متناقضة، فهو كان يعمل في المجالات الإنسانية - ويهتم اهتماماً شديداً بالأيتام والأرامل والمرضى، وهو يعمل يحتاج إلى قلب رقيق ونفس شفافة وهو في الوقت نفسه القائد العسكري الصلب الذي لا يتزحزح ولا يتراجع ولا يلين في وجه الأعداء. والحال هذه في الجمع بين القوة والرقة هي من أحوال العظماء - وما أقلهم - ولعلنا نذكر قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله لقد قسوت في الله حتى أصبح قلبي كالحديد، وقد لنت في الله حتى أصبح قلبي كالزبدة). ألا ترون سلطان الخير في هذه الصورة التي ذكرها عمر - رضي الله عنه - فقد كان عمر يبكي لبكاء يتيم ويهيم الليل على وجهه لأَنّه أرملة، ولكنه كالإعصار شدة وعنفا ومضاء في وجه أعداء الإسلام. وكذلك كان سلطان في رقة النسمة حيال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام وأصحاب الحاجات، يذوب قلبه رقة كما يذوب الزبد إذا رأى دمعة يتيم أو سمع آهة موجوع، وهو نفسه سلطان القائد الجسور والمقاتل الشرس، في وجه أعداء البلاد والمتربصين بها، فإذا هو كالفولاذ قوة وكالجبل الأشم ثباتا وعزة. قلنا: إن الأمير سلطان يجمع بين الرقة والحزم في تناغم عجيب، ولعلنا نضيف إليها صفة أخرى من صفاته الخيّرة التي لا تعد ولا تحصى تثير العجب مثلما تثير الإعجاب، وهذه الصفة هي تعدد المواهب، فالأمير سلطان كلف خلال حياته بمناصب مختلفة تحتاج إلى قدرات وخبرات متتالية، فقام بها على أحسن وجه وأكمله، فقد كلف بمناصب قيادية هامة في الحكم والإدارة فقام بها كأنه درس علم الإدارة وفنها وأنظمة الحكم في أرقى جامعات العالم، بل نبغ فيها أكثر ممن درس الإدارة وإدارة الأعمال ونظم الحكم وتخصصوا فيهما، وبعض هذه المناصب كان يحتاج إلى دراسات عليا في العلوم الاستراتيجية والعسكرية فتولاها وأدهش من تخصصوا فيها بأفكاره الرائعة وخططه المحكمة، وحتى لا يكون حديثاً جزافاً نذكر بعض المناصب التي تولاها أثناء حياته التي كانت عامرة بالعطاء. في الأول من ربيع الثاني عام 1366ه عين الملك عبدالعزيز رحمه الله نجله الأمير سلطان أميرا لمنطقة الرياض، وكان دوره بارزاً في تنظيم الإمارة وتطويرها وتأسيس إدارة حديثة عصرية، وقد طبق الحسم في الإدارة دون تأخير أو تقصير، واستغل الزمن وحركته لأن الزمن يمثل نصف القيادة واستطاع أن يحقق تطورا سريعا في الإدارة فتحققت النتائج التي قصدها بالكم المطلوب والسرعة والزمن المستهدفين!! وفي 18 ربيع الثاني 1373ه عين وزيراً للزراعة عند تشكيل أول مجلس للوزراء في المملكة، وكانت تلك الفترة تحتاج إلى رجل في قوة الأمير سلطان وحزمه وعزمه، يملك فلسفة واضحة متطورة ومتقدمة على عصرها في الحكم والإدارة، وبالفعل حدد الأهداف لتوطين أهل البادية ومساعدتهم في إقامة مزارعهم حسب الطرق الحديثة مما اعتبر القاعدة الأساسية للتطوير الزراعي في بلاد الحرمين الشريفين، إضافة إلى وضع أول تنظيم إداري ومالي للوزارة والذي لا يزال يمثل الأسس الإدارية التي تقوم عليها الوزارة رغم تعدد إداراتها وأقسامها اليوم!! وبتاريخ 20 ربيع الأول 1375ه عين وزيرا للمواصلات التي أصبحت اليوم (وزارة النقل) لينقل المواصلات في البلاد في تلك الفترة من التاريخ رغم تواضع الموارد المالية نقلة نوعيةكبيرة لتدخل في عصر شبكات المواصلات الحديثة البرية والسلكية واللاسلكية وأنشئت شبكة سكة الحديد التي تربط المنطقة الشرقية بالمنطقة الوسطى، وما هو قائم اليوم في المملكة من ربط لجميع مناطق البلاد في ميدان الطرق والمواصلات والاتصالات قد تم وضع لبناته الأساسية على يد الأمير سلطان. وبتاريخ 3 جمادى الثانية 1382ه عين الأمير سلطان وزيراً للدفاع ومفتشا عاما، وكانت الوزارة المهمة تحتاج فعلاً لرجل في حزم الأمير سلطان وعزمه وقوته وخبرته، وان بصماته لا تخفى على أحد في تلك الوزارة وقد قفز بقدرات القوات السعودية قفزات كبيرة موفقة، ثم عين نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء في 21 شعبان 1402ه إضافة إلى منصبه كوزير للدفاع والطيران والمفتش العام وهو المنصب الذي تقلده مؤخراً أخوه الأمير نايف بن عبد العزيز إضافة إلى منصبه كوزير للداخلية، وبعد انتقال الأمير سلطان إلى جوار ربه أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قراره الحكيم بتعيين أخيه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وليا للعهد نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية. ويكفي الأمير سلطان فخراً أن الجيش السعودي قاد معركة تحرير الكويت في عهد قيادته، فكان الجيش السعودي أول قوة مسلحة تقف في وسط العاصمة الكويت ليعلن الفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة آنذاك مساعد وزير الدفاع والطيران والمفتش العام للشئون العسكرية تحرير الكويت وتأكيد الشرعية الدولية وعودة الحكومة الكويتية الشرعية إلى البلاد. إن خوض الجيش السعودي معركة تحرير الكويت جاء بعد أن بذل الأمير سلطان جهداً خارقاً لتحديث أسلحة الجيش ومعداته على مدى سنوات عديدة، بحيث يملك دائما أحدث وأعتى ما أنتجته المصانع الحربية، وهو عندما كان رحمه الله وأسكنه فسيح جناته يعمل على تسليح الجيش كان يعرف أن جيش المملكة ليس للمملكة فقط، فإن زعامتها العربية والإسلامية تفرض عليها مسئوليات جساما تجاه من يتم الاعتداء عليه من إخوانها من الدول العربية والإسلامية استجابة لأوامر الدين والعروبة قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) الحجرات 9. إن الأمير سلطان من خلال حبه لوطنه وإشفاقه عليه كان يريده وطناً قوياً عزيزاً مرهوب الجانب مسموع الكلمة، وقد أدرك تمام الإدراك أن ذلك لايتحقق إلا بجيش قوي، يملك أقوى الأسلحة وأعتاها، فإن وطنه مستهدف كزعيم للأمة الإسلامية، كما انه يملك ثروات ضخمة هي محل الطامعين والمغامرين. وفي 26 جمادى الثانية 1426ه الموافق 1 أغسطس/ آب 2005 انتقل الملك فهد بن عبد العزيز إلى جوار ربه فخلفه أخوه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي اختار أخاه الأمير سلطان ولياً للعهد نائباً لرئيس مجلس الوزراء إضافة إلى منصبه كوزير للدفاع والطيران والمفتش العام. وهكذا ظل الأمير سلطان يعطي كل جهده ووقته وخالص عاطفته ومواهبه لوطنه دون من ولا أذى، عطاء خالصا لا مقطوعا ولا ممنوعا، عطاء يعجز عنه العدد الكبير من الرجال، وتنوء به الجماعة من الناس. أعطى ماله لا يعد ولا يحسب وأعطى جهده لا يكل ولا يتعب، وأعطى عاطفته دفاقة قوية صادقة وهذا حال الرجال أولي النفوس السامية والهمم العالية والأمير سلطان فيهم نسيج وحده وفريد نوعه، أرهق من حاول التشبه به وأنهك من حاول التطاول لقامته. ورغم أن الأمير سلطان ظل يعطي لوطنه وشعبه ولا ينتظر من ذلك جزاء ولا شكورا، إلا أن شعبه الوفي جزاه خير الجزاء: عاطفة صادقة وحباً خالصاً، وقد وضح ذلك في أجلى صوره وأسمى معناه في يوم وفاته، فقد حزن عليه الناس كما لم يحزنوا من قبل، وبكوا عليه كأنهم لم يفقدوا عزيزاً قبله، وأخذ كل واحد منهم يعزي الآخر ويجهش في البكاء كأنه من خاصة أهله. هذا لأن سلطان كان حبيب كل الناس وقريب كل الناس، وكان يوم تشييع جنازته يوما مشهوداً لن تنساه المملكة والشعوب العربية والإسلامية وكل محب للخير والعدل والسلام قط فقد تقاطر الناس من كل فج لوداع حبيبهم سلطان الخير. وليس أصدق في التعبير عن مكانة الأمير سلطان وحب الناس له من يوم تشييعه، ومصداق ذلك أن رجلا كان من المبتدعين يعادي الإمام أحمد بن حنبل ويكيد له والإمام أحمد - رحمه الله - يصبر عليه فجاء الرجل للإمام يوما وقال له: متى أعلم أنك على حق؟ فقال الإمام أحمد قولته المشهورة: (موعدنا يوم الجنائز) وقد صدق الإمام عندما توفي ذلك الرجل لم يشيعه إلا عدد قليل لا يكاد يذكر، ولكن عندما توفي الإمام أحمد صلى عليه أكثر من ألف ألف، وكانت من الجنائز المهيبة في أرض الخلافة ببغداد، وكذلك كانت جنازة الأمير سلطان حدثا مشهودا، وحدثت بأفصح لغة عن حب شعب بلاد الحرمين الشريفين له ومكانته في قلوبهم، وقلوب المسلمين كافة والدول المحبة للسلام لذا جاء إلى بلاد السلام بلاد الحرمين الشريفين قادة وممثلو أكثر من مئة دولة لتقديم واجب العزاء لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمين الأمير نايف بن عبد العزيز وشعب المملكة والشعوب العربية والإسلامية والمجتمع الدولي بأسره إنها شهادة التاريخ لقائد عظيم، فقيد الأمة الذي رحل عنا إلى جوار ربه، وسيبقى اسمه محفورا في النفوس والقلوب ومدونا في كتب عظماء التاريخ.. (*) رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية