لعل ما يلفت النظر في هذا النظام هو التطويل والإطناب في التفاصيل الدقيقة للإجراءات التي تترك عادة لقواعد الإجراءات المحلية، مثل تلك المتعلقة بمؤهلات المحكم وتعيينه ورده. وقد استغرقت تفاصيل الإجراءات أكثر من ثلثي نصوص النظام. وقد كان من الممكن الإحالة في هذه الأمور إلى قواعد المرافعات. بل إنّ غالبية الدول تكتفي بالنص على التحكيم ذاته من قانون المرافعات. ولكن النظام في حد ذاته، وكوحدة كاملة، يثير أسئلة يحار المرء في الإجابة عليها. أهو تحكيم تجاري دولي؟ أم تحكيم شامل؟ لقد كان من السهل معرفة مصدر هذا النظام الجديد فإنه يكاد أن يكون منقولاً (نقل مسطرة) من (قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي) لعام 1985م مع التعديلات التي أدخلت عليه في عام 2006م، ومن المعلوم أنّ لجنة الأممالمتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) قامت بإعداد نصيّن أولهما القانون النموذجي المشار إليه، وأما النص الآخر فهو (قواعد الأونسيترال للتحكيم) الذي وضع في عام 1976م وجرى تنقيحه عام 2010م. وكما أسلفنا فإنّ النظام الجديد يكاد أن يكون صورة طبق الأصل من القانون النموذجي، غير أنه قد طعم هنا وهناك بعبارات تشير إلى مراعاة نصوص الشريعة الإسلامية والنظام العام. إنّ بعض نصوص النظام الجديد قد بدت وكأنها أكثر خروجاً عن المألوف من النص الأصلي. ومثال ذلك ما نصّت عليه (المادة الحادية والعشرون) الخاصة ب(اعتبار شرط التحكيم). فإنّ ما نصّت عليه هذه المادة يُعد مغالاة في اعتبار شرط التحكيم. إذ نصّت على أن «يعد شرط التحكيم الوارد في أحد العقود اتفاقاً مستقلاً عن شروط العقد الأخرى. ولا يترتب على بطلان العقد - الذي يتضمّن شرط التحكيم - أو فسخه، أو إنهائه، بطلان شرط التحكيم الذي يتضمنه إذا كان هذا الشرط صحيحاً في ذاته» (هكذا). وهذا نصٌّ غريب، ووجه الغرابة فيه أنه يعتبر شرط التحكيم في العقد الباطل صحيحاً وملزماً. مع أن الثابت شرعاً انسحاب البطلان على جميع شروط العقد إذا حكم ببطلانه شرعاً. وقد أكد لي ذلك أكثر من زميل من المتخصصين في فقه الشريعة الإسلامية. كل ذلك مع أنّ أصل هذه المادة في القانون النموذجي، وهي المادة 16-1، يكتفي بأن».. أي قرار يصدر من هيئة التحكيم ببطلان العقد لا يترتب عليه بحكم القانون ببطلان شرط التحكيم» وهو نص - على ما فيه - أخف بكثير من نص (المادة الحادية والعشرين) من النظام الجديد. ومثال آخر هو استحداث (المرجح) بمعنى (الفيصل) أو (الوازع)، وهو محكم رابع يوكل إليه حسم النزاع «إذا تشعّبت آراء هيئة التحكيم» (المادة التاسعة والثلاثون) مع أنّ المادة 29 من القانون الموحّد الخاصة باتخاذ القرارات في هيئة التحكيم اكتفت بقرار الأغلبية دون أن تتعرّض «لتشعب آراء المحكمين»! وعندما ينتهي القارئ من قراءة النظام يتبادر لذهنه أنه نظام موجّه للخارج. وهذا هو الواقع فإنه يتعلق أساساً بالتحكيم التجاري الدولي. لذلك فإنّ من المستغرب أن ينص في مادته (الثانية) على شمولية «على كل تحكيم أياً كانت طبيعة العلاقة النظامية التي يدور حولها النزاع، إذا جرى هذا التحكيم في المملكة أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجري في الخارج، واتفق طرفاه على إخضاعه لأحكام هذا النظام». إنّ ذلك يعني أن طرفي النزاع السعوديين يمكنهما - بناءً على نصوص هذا النظام - إخضاع التحكيم بينهما إلى قواعد إجرائية أجنبية وقوانين موضوعية أجنبية وحتى اختيار لغة أجنبية، فهل هذا ما قصده المشرع؟! وقد تفاوت سلوك الدول تجاه قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي: فبينما خصصته الغالبية للتحكيم الدولي فقط، مع الإبقاء على قانون التحكيم الوطني، فضّلت دول أخرى أن تجعله شاملاً. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي اتبعت دولة البحرين السلوك الأول فأبقت على قانونها الوطني للتحكيم. أما سلطنة عمان فجعلت من قانون الأونسيترال قانوناً شاملاً للتحكيمين المحلي والدولي. وفيما يتعلق بالطرف الأجنبي الذي يبدو أن النظام الجديد أراد طمأنته وتشجيعه على الاستثمار في المملكة أو التعاقد مع السعوديين، نعود فنحتكم إلى المنطق المجرّد: فنتساءل هل يحتاج الطرف الأجنبي إلى نظام محلي حتى ولو كان مأخوذاً من القانون النموذجي للأونسيترال إذا كان المجال مفتوحاً له لاختيار أي قواعد تحكيم أخرى مثل قواعد غرفة التجارة الدولية أو قواعد محكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي أو حتى قواعد الأونسيترال للتحكيم التجاري الدولي، ما دام أن المملكة العربية السعودية أصبحت طرفاً في ميثاق نيويورك لعام 1958م (المرسوم الملكي رقم م-11 وتاريخ 16-7-1414ه) الخاص بتنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية والتي تحفّظت عليه المملكة بشرط عدم مخالفة النظام العام في المملكة؟ ثم إن مجرّد الإشارة في النظام الجديد إلى الشريعة الإسلامية يكفي لتنفير الأجنبي من هذا النظام لما عُرف عنه من نفوره من ذكرها. إن ما نحتاج إليه في الواقع هو تنقيح وتطوير نظام التحكيم الداخلي (الوطني) لجعله أكثر مرونة ليخفف الضغط على المحاكم وليتمتع بالسرعة التي يتطلع إليها طرفا التحكيم. وفي هذا السياق لابد من الإشراف القضائي بقدر معقول على إجراءات التحكيم، وهو ما تنص عليه قوانين الغالبية الساحقة من دول العالم، ومنها قانون التحكيم النموذجي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والذي يعمل به 35 ولاية من الولايات الخمسين حتى الآن، إذ ينص هذا القانون الأمريكي النموذجي - بين أمور أخرى - على رقابة «الجهة القضائية المختصة أصلاً بالنزاع». كما يجب من زاوية أخرى الاهتمام باختيار قائمة المحكمين والخبراء المعتمدين من وزارة العدل. فإن القائمة الحالية تضم بين دفّتيها العشرات من حديثي التخرج وممن تنقصه الخبرة التي يتطلع إليها المتخاصمون. وأما الخبرة فيمكن حصرها بالمكاتب المهنية المتخصصة المرخّصة من الدولة. هل يعرض النظام الجديد الدولة للتحكيم الأجنبي؟ نصّ النظام الجديد في أول جملة في مادته الثانية على تحفّظ مفاده «مع عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفاً فيها ....»، كما ورد في الفقرة (3) من المادة التاسعة «كما يُعد في حكم اتفاق التحكيم المكتوب كل إحالة في العقد إلى أحكام عقد نموذجي، أو اتفاقية دولية، أو أي وسيلة أخرى تتضمّن شرط تحكيم إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءاً من العقد». ونخشى أن يكون في هذا الاهتمام بالمعاهدات الدولية إشارة ضمنية إلى المعاهدات الثنائية (BITs) لحماية الاستثمارات بين المملكة ودول صديقة، وقد بلغ عددها العشرون معاهدة ثنائية. والمقصود من هذه المعاهدات الثنائية تكريس اختصاص المركز الدولي لفض منازعات الاستثمار بين دولة ومواطني دول أخرى، والمعروف باسمه المختصر (إكسيد ISCID) وهو مركز منبثق من مجموعة البنك الدولي. وكانت المملكة من أوائل الدول المنضمة لمعاهدة إنشائه، غير أنها لم تتورّط في أي نزاع يعرضها لمخاطر التحكيم أمام هذا المركز، إلا في عام 2003م حيث أقامت شركة ألمانية (Ed. Zublin AG)، دعوى ضد المملكة انتهت بالحل الودي خارج المركز، ونحن نحذّر من عواقب هذه المعاهدات الثنائية لحماية الاستثمار، التي تبدو وكأنها معاهدة للصداقة والتعاون، ولكنها في الواقع تعطي الشركات الأجنبية العاملة في المملكة إمكانية اللجوء إلى تحكيم (إكسيد) ويتحوّل الموقف إلى نوع من الابتزاز والتهديد غير المباشر. وخلاصة القول إن النظام الجديد يحمل بين طيّاته تنفير الأجنبي منه لمجرّد الإشارات العابرة في بعض مواده إلى وجوب الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية والنظام العام في المملكة - كما أسلفنا -. وهو نظام لا نعتقد أن في تطبيقه على السعوديين مصلحة بل تنفير من القضاء السعودي بوجه عام وشريعته وأنظمته - لا سمح الله -. وأخشى ما نخشاه هو أن يجرنا هذا النظام الجديد إلى موقف كموقف (مركز دبي الدولي المالي) وهو مركز بريطاني يحتل مبنى يعتبر (منطقة حرة)، إذ وقعت هيئة التحكيم التابعة له مشروعاً مشتركاً مع محكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي. وبمعنى آخر أوجد فرعاً لهذه المحكمة في دبي. وإذا كان مثل هذا الأمر مستساغاً في (المدينة الذهبية) نظراً لظروفها التاريخية ومركزها المالي المميز عالمياً بالنسبة للاستثمارات الدولية، نقول إذا كان ذلك له ما يبرره في دبي، فإن إنشاء مركز تحكيم في المملكة يقوم - لا سمح الله - بدعوة أحد مراكز التحكيم الدولية مثل غرفة التجارة الدولية في باريس (ICC) أو الهيئة الأمريكية للتحكيم (AAA) إلى مشروع مشترك، فإنّ هذه الخطوة ستعتبر بلا شك افتئاتاً على سيادة الدولة وانتقاصاً من أهم وظائفها وهو إقامة العدل على إقليمها. والله من وراء القصد. (*) محامي - الرياض