تقديم: للنشر سحره وجماله، إنها مهنة تكمن متعتها في مشقتها، ذلك أن سوق الكتاب في العالم العربي ليس كبيراً وبالتالي يعمل الناشر على مساحةٍ من المخاطرة أحياناً، فالربح المادي الذي يأتي به النشر في العالم العربي ليس كبيراً، غير أن ما يميز المهنة أن الناشرين يعشقون النشر لما فيه من علاقةٍ عشق بالكتاب والحبر. النشر ليس مشروعاً يدر الأموال الطائلة عربياً، ولكنه يحتوي على متعة من جهة، كما أنه ليس مشروعاً خاسراً من جهةٍ أخرى، إنه مشروع طويل الأمد، من خلاله يمارس الإنسان المهمة التي يحبها، وبنفس الوقت يرسم مساراتٍ لنشر الكتاب والمعرفة وتشجيع الشباب من جهةٍ أخرى، لقد كان لي قدر تأسيس مركز بحثي وهو في دبي وأسميته مركز المسبار للدراسات والبحوث وذلك في سنة 2004. والمسبار باللغة العربية هي أداة قياس ورصد الأشياء، كان القدماء يبعثون برجل يستطلع الأرض والماء قبل وصول البعثة سواء كانت تجارية أو عسكرية أو تبحث عن الحياة والماء على عادة البدو الأوائل. ويسمى هذا الذي يستطلع قبل الجماعة مسبار. ثم في سنة 2009 أسستُ دار مدارك للنشر والتوزيع والتعريب، فكانت التجربة بمجموع سنواتها التي قاربت العقد من الزمن والتي أريد أن أمر عليها -أي التجربة- في هذه النقاط. 1- دائرة القراءة في العالم العربي: من الطبيعي أن نعترف بأن القراءة في العالم العربي رغم كل التاريخ الجميل لأجدادنا المتقدمين، إلا أن واقعها مخجل في الوقت الحاضر، بل إن جسد القراءة مريض وهزيل ويعاني من الكساح، ومعرفة الداء أول خطوات الدواء، وفي تقرير التنمية العربي الصادر عن مؤسسة الفكر العربي بدورته العاشرة في ديسمبر 2011 جاء فيه أن العربي يقرأ 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ الأوروبي 200 ساعة سنوياً. وتلفتني نسب القراءة الرائعة والمتطورة لدى الكوريين، حيث ازدادت نسبة الكتب العلمية البحتة 12.2%، تليها كتب الفلسفة بنسبة 11.5%، وكتب الادب بنسبة 10.2%. وانخفضت نسبة الكتب العامة بنسبة 26.2%، تليها الكتب المرجعية للطلاب بنسبة 16.7%، وكتب الأطفال بنسبة 14.4%. وبلغ حجم سوق النشر في كوريا 2.3 بليون دولار وانخفض بنسبة 12.8% عن حجم سوق النشر عام 2002. وهذا بحد ذاته يفتحنا على تجارب الأمم الأخرى مع القراءة، فنستفيد نحن العرب من نمو القراءة وكثرة العناوين الجادة بين الكتب المطبوعة. أردت أن أطلع حضراتكم من خلال هذه المقارنة على حال القراءة لدينا، حتى يمكنكم تصور الفرق. تاريخنا العربي والإسلامي تاريخ علم ونشر وطباعة، وبتصفح الموسوعات التي تتحدث عن الكتب، تجد ذلك طافحاً، ولأضرب مثلاً بكتاب «الفهرست» لابن النديم (توفي 995م)، جمع فيه كل ما صدر من الكتب والمقالات العربية في زمنه وكتب الأديان والفقه والقانون وعن مشاهير الملوك والشعراء والعلماء والمفكرين، هذا فضلاً عن التدوين الذي بدأ مبكراً في تاريخنا الإسلامي وتحديداً بعد القرن الأول من بعثة النبي محمد عليه السلام. وهذا التاريخ يجعلنا نأمل أن تعود حركة النشر أقوى مما هي عليه. 2- الكتاب بين الجمهور والنخبة: يتردد الناشر عادةً بين الكتاب النخبوي والكتاب الجماهيري. هل يمكن لناشرٍ أن يطبع كتاباً عظيماً غير أنه نخبوي لن تتجاوز مبيعاته بضع مئاتٍ من النسخ؟!.. برأيي أن الفصل بين خيارات النخبة وخيارات الجمهور ليس موفقاً بشكلٍ دائم. إذ تتداخل الخيارات أحياناً، حين نأتي إلى رواية مثل «ترمي بشرر» للروائي السعودي الشهير، عبده خال نجدها رواية حازت على جائزة البوكر في 2010 وبقلم روائي من أهم الروائيين العرب، لكن لا يمكنني أن أصف هذه الرواية بأنها للنخبة ولا بأنها للجمهور، بل قرئت من الصغير والكبير من الشباب والفتيات. من هنا فإن الكتب النخبوية يمكن أن نحصرها بالرسائل الأكاديمية التي لا تباع عادةً ما لم تسوّق بشكلٍ جيد وتوضع لها العناوين المناسبة وتصاغ صياغةً مختلفة. الجمهور له خياراته وكذلك النخبة لها خياراتها، والتردد الذي يعتري الناشر هو تردد طارئ، وليس تردداً أصلياً، ذلك أن مفهوم النخبة عائم ومفهوم الجمهور عائم، فالأصح أن نقول إن الناشر يجنح نحو الكتاب الناجح سواء كان التطلع له من قبل النخبة أو من قبل الجمهور، المهم أن لا يكون كتاباً فاشلاً يملأ المستودعات. على أن تحديد النجاح والفشل، هنا، ليس ذا معايير صارمة ودقيقة، فهو خاضع لتقديرات، تبنى على الخبرة، وهي قد تفشل أحياناً، وكثيراً ما يأتي انتشار كتاب، يبلغ الآفاق، ولم يتوقع له الناشر ذلك، فيما يتوقع لكتاب أن يكون مليء السمع والبصر، فلا تتجاوز مبيعاته العشرات. لكن الملاحظة اللافتة، هي أن صناعة الكتاب، في عالمنا العربي، وأحسب أنها كذلك في العالم كله، تشبه صناعة السينما، فالمنتج يتبنى عشرة أفلام في السنة قد ينجح أحدها، فيدفع تكاليف البقية، التي لم تحقق نجاحاً ساحقاً، وهكذا.. المصيبة ألا ينجح أيّ منتج خلال عام، سواء أكان كتاباً أم فيلماً!. 3- العناوين والخبرة الصحافية: أعترف أنني استفدت من خبرتي الصحافية في مجال النشر، وتحديداً في اختيار العناوين التي تعتمد للنشر، وأخص بالذكر دار مدارك والتي تأخذ مطبوعاتها صيغ التأليف الشخصي وليس التأليف المحكّم كما هو حال كتب مركز المسبار.. أذكر مثالين على ذلك، كتاب الأستاذ: ياسر حارب «بيكاسو وستاربكس» والذي طبع قرابة 20 ألف نسخة منه خلال عام واحد تقريباً، وهو رقم كبير جداً بالمقاييس العربية، اقترحتُ على المؤلف هذا العنوان، وكان له أكبر الأثر في تسويق المنتج، هذا مع كون الكتاب يضم أفكاراً رائعة، لكن العنوان أيضاً له دوره. وكذلك كتب الدكتور: رشيد الخيون، والتي كانت نخبوية بعناوينها، ومن ثم حوّلناها بالتشاور معه لتكون كتباً ذات عناوين جاذبة براقة محببة، وبهذا السبب انتشرت وذاع صيتها. ما من شك أن بعض الكتب تكون عظيمة لكن لم يحالفها الحظ بالنجاح، وهذا في نظري يعود إلى عاملٍ أساسي وهو التسويق من خلال العنوان.. لهذا فإن العنوان يعطيك كتاباً جميلاً ذائع الصيت. ولأذكّركم بكتاب «وصايا» للأستاذ: محمد الرطيان والذي طبع منه عشرة آلاف نسخة خلال شهر ونصف. العنوان أساس النجاح، صحيح أنه لوحده لا يصنع كتاباً عظيماً، لكنه بالتأكيد يسوق لكل الكتب المهمة. 4- بين مركز المسبار ودارك مدارك للنشر: لديّ تجربتان مختلفتان في عالم النشر، الأولى في مركز المسبار، وهو مركز بحثي يعنى برصد الحركات والمفاهيم التي تستخدم في الجماعات والأحزاب ذات التوجهات الأيديولوجية والطموحات السياسية، غير أن آلية فسح الكتاب لينشر في المسبار غير آلية الفسح في مدارك، بالمسبار هناك هيئة تحرير تضم باحثين ومهتمين لقراءة الكتاب والتعديل عليه وتقويمه، ومن ثم طبعه، والتحرير في المسبار يأخذ طابعاً أكاديمياً وبحثياً، في مدارك أعرض الكتاب قبل أن ينشر على مجموعةٍ من الشباب الذين لا هم في صف النخبة التي تكون حادة بأحكامها أو عاليةً بسقف استقبالها للكتب ولا هي -فئة الشباب- ممن لا يقرؤون ولا يحسنون الفحص للكتاب، لهذا اعتمدت هذه الفئة لتكون المتذوقة الأولى للكتب التي تطبع في مدارك، لتكون الكتب موجهةً إلى الشباب من فئتهم هم. مدارك دار للشباب والفتيات والبيت والعائلة والطفل، إنها نتاج همومهم أو أسئلتهم أو تطلعاتهم. 5- السعودية والجيل الجديد: الجيل الجديد في السعودية تواق إلى القراءة، وأضرب مثلاً بمشروعين شبابيين أراهما في غاية الجنون والإبداع والابتكار بما يخص القراءة، الأولى اسمه «نادي Bookccino» وهذا المشروع لشبابٍ وضعوا مقهى كلما اشتريت منه كتاباً أعطاك كوب قهوة مجاناً، وهي فكرة ذكية لجذب الشباب من الاستهلاك بأمورٍ تالفة إلى شراء الكتب التي تخلد لدى الإنسان ويورثها لأبنائه وبناته. والمشروع الآخر اسمه «جيب لي»، وهي كلمة عامية سعودية، تعني أحضر لي، وهؤلاء مجموعة من الشباب تطلب منهم متى شئت أن يشتروا لك كتاباً ويوصلونه لك في البيت. مثل هذه المشاريع وسواها تجعلنا أكثر تفاؤلاً بهذا الجيل الفذ والنابه. الشباب والفتيات يتهافتون على الكتب، وإحصائيات جامعة الدول العربية تتحدث عن أن السعودية هي أكبر سوق كتب في العالم العربي، بل إن نسبة استهلاك السعودية للكتاب تزيد على 53% من استهلاك العالم العربي كله، وهذا أمر عرفته وجربته وسأخصه بمحورٍ خاص. الشباب يقرؤون ولديهم نهم بالمعرفة، في السعودية 150 ألف مبتعث ومبتعثة في الخارج، يتوزعون بين شرق العالم وغربه، وهذه الفئة حيوية وأٍساسية لأيّ مشروع تغيير نبحث عنه أو نتوق إليه. 6- انتشار القراءات الفكرية والأدبية: القراءت التي يتجه إليها الشباب السعودي يمكن أن نقول إنها متعددة، لكن سوق الكتاب الفكري والأدبي هو الأعلى مبيعاً، الروايات أو الكتب التي تحمل أفكاراً لتطوير الذات، أو الأدب، أو الفلسفة والفكر كلها مجالات مرغوبة ومحبوبة. ويبدو لي أن السبب الرئيسي لهذا الاتجاه هو الطابع الاجتماعي، من المعلوم أن السياق الذي تنتهجه شرائح الشباب في العالم العربي هو سياق سياسي، ولهذا إذا كان أرسطو يقول إن «الإنسان كائن سياسي»، فإنني أقول: «إن العربي كائن سياسي» لكن في السعودية الموضوع أكثر اختلافاً، ذلك أن السجال الذي لم ينته منذ المد الشيوعي ووصولاً إلى الثورة الإيرانية، ومن ثم حروب الخليج الثلاثة كل السجالات كانت ثقافية، كان سؤال الدين والقبيلة والحداثة والتنمية والعلمانية والليبرالية والمادية والماركسية حاضراً بشكل رئيس، وكانت هذه المفاهيم تطرح لكن بشكلٍ ثقافي، من هنا استمرت القصص الثقافية لتكون موضع سجال، كما أن «المحافظة» النسبية التي توجد في المجتمع لها دورها في إشعال أسئلةٍ تتعلق بحرية المرأة أو المساواة أو الموقف الديني من هذا الفعل والسلوك أو ذاك.. من هنا كان الإقبال منقطع النظير على الكتب ذات الطابع الفكري والأدبي. 7- معارض الكتب: لو أنني سمعتُ أن ناشراً باع في حدود أسبوعٍ واحد أكثر من 23 ألف كتاب فسأتردد كثيراً قبل أن أجزم بصواب رقمه، لكنني أنا الذي حدث معي هذا الخبر، في معرض الرياض لوحده كانت الكتب في الجناح الذي يخص مدارك والمسبار تباع بشكلٍ يذكر الناس ببيع الخبز في الأزمات، وحين نزلت الصور في الإنترنت ومقاطع الفيديو للازدحام كانت مدهشة، ومثيرة للتفاؤل، البيع بمثل هذا الرقم على جيلٍ سعودي تواق إلى المعرفة والمطالعة أشعرني بالسعادة الغامرة، وهي ليست سعادة مادية بقدر ما هي سعادة بالإنجاز أن تكون مؤسسات أديرها وأمتلكها مقبولة لهذا الحجم. كانت بعض التيارات إلى قبل أسابيع قليلة من بدء معرض الكتاب تهاجمني شخصياً، وتدير حملة تشويه ضد مركز المسبار للدراسات والبحوث تحديداً، يظن البعض أنها حملة من المجتمع السعودي، غير أن إقبال الناس علينا أثبت أن هذه الحملة لأشباحٍ من المؤدلجين الذين يكذبون ويصدقون كذبتهم، المجتمع هو الذي أعلن رأيه بقبول المنتج الذي أقدمه رغم كل التشويه الذي أخفق فعلياً عن إبعاد الناس عن الذي ننتج، وبفضل الله أخذ جناحنا أكثر دور النشر بيعاً في ذلك المعرض. 8- خلطة الكتاب الجديد: في المسبار ومدارك وضعتُ ما يمكنني أن أسميه ب»الخلطة» للكتاب الذي يطبع.. الكتب التي أطبعها عادةً ما أتخيل نفسي حينها زبوناً لأتصور خيارات القارئ أو المشتري، ثم أقترح على المؤلف وضع عنوانٍ، أو كتابة مقدمة تفصيليلة، أو إيجاد غلافٍ لافت وبارع، هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فأراهن على القارئ من سن 15 إلى 35 وهذا القارئ هو الذي أعمل على كسبه، وبفضل هذا الرهان استطاعت الكتب التي يؤلفها الشباب أن تنجح نجاحاً باهراً، كما نجحت كتب عبدالله المغلوث، وكتاب: ياسر حارب، وكتاب: سليمان الهتلان، وكتاب: خالد الباتلي، وكتب محمد الرطيان، وغيرهم. الخلطة هي مزيج من المضمون والشكل، تحتاج كل دار نشر أن تصنع بصمتها وخلطتها لإيجاد منتجٍ مميز يصعب أن ينازله الفشل. إعلامي وصحافي سعودي