اخترع المستشرقون الغربيون لنا، نحن العرب والمسلمين، وطوال مراحل عملهم في أرض الشرق العربي المسلم (مطالع القرن الماضي والقرن ما قبل الماضي) تاريخاً يقول (إن بني إسرائيل هم اليهود بعامّة) وأن هؤلاء قاموا بمذابح منظمّة للفلسطينين قبل نحو ألفين وخمسمئة عام من الآن أو أكثر، حين فتحوا المدن الكنعانية عنّوة بقيادة يوشع بن نون ثم بقيادة داود-ع-، وما نواجهه اليوم، إنما هو تكرار لحدث سبق له أن حدث؟ وأن عدو الأمس البعيد عاد لملاقاتنا مرة أخرى- في طرقات التاريخ ذاتها وفي مفترقاته ومنعطفاته المأسوية ذاتها أيضاَ-. ولم يكن ذلك صحيحاَ، فلا بنو إسرائيل في التوراة هم يهود أوروبا، ولا الفلستيم الذين قاتلهم داود هم الفلسطينيون؟ هذا الخلط الفظيع هو مصدر وأساس التلاعب بتاريخ المنطقة. وهكذا، أصبحنا- ويا للأسف- ربما منذ ما يزيد عن مئة عام، وقد نستمر كذلك وقتاً أطول، أسرى خطاب لا تاريخي يعجّ بالصورة الكاذبة والمرويات الملفّقة. وممّا يفاقم من فظاعة الأمر أن الرواية السائدة عن تاريخنا القديم حظيت بالتصديق من جانب عامّة الناس؛ بل إن المؤرخين العرب- بوجه العموم- لا ينفكّون عن ترديد الأكاذيب الاستشراقية ذاتها، دون أدنى تدقيق أو أعمال للفكر. وهكذا أيضاً، فقد أصبحنا مسلوبي الإرادة كلياً أمام تاريخ مختلق، لا نملك القدرة على تصحيحه، ولا الاستسلام أمامه، لكننا بتنا فعلياً تحت رحمته. وبسبب هذه الرواية فقد صدّقنا أن (تلفيق التاريخ) هو (التاريخ)؟ وتلك مفارقة ساخرة بأتمّ ما في الكلمة من معنى. وكان اختراع قصة عبور نهر الأردن، وفتح أريحا، ثم نشوب معركة خياليّة تدعى (معركة هر- مجدو) في صلب أكذوبة كبرى صنعت منّا الضحية وصنعت من الآخر بطلاً. في الواقع لم تقع مثل هذه الأحداث في فلسطين، وهذه المعركة بالذات لا وجود لها في السجلات التاريخية ولا في المرويات الشفاهية، ولم تقع فوق أرضها في أي وقت من التاريخ المكتوب والمدّون في السجلات، ويشوع لم يرتكب البّتة، مذبحة بحق الفلسطينيين، لأنه ببساطة لم يكن يعرف فلسطين، ولا يوجد شعب يُعرف بهذا الاسم في المكان الذي عاش فيه؟ وحين نفنّد هذا الخداع بأدوات البحث العلمي الموضوعي المتجرّد من أي أغراض، فسوف نكتشف معه الخدعة المأسوّية التالية: إذا ما تقبّلنا رواية عبور الأردن وفتح أريحا، وصدّقنا ما اختلقه المستشرقون (وعلماء الآثار من التيار التوراتي) عنها، ففي هذه الحالة سوف يتعيّن علينا أن نتقبّل القسم الآخر منها والقائل إن الفلسطينيين شعب تسلّل من جزيرة كريت اليونانية إلى فلسطين، وأن هؤلاء زاحموا شعباً آمناً اسمه شعب بني إسرائيل ونازعوه في أرضه التاريخية؟ وهذا هو جوهر ولبّ التلفيق والاختلاق؛ بل وجوهر (التاريخ المخترع). أمّا الحقيقة التي يتوجب الدفاع عنها، فهي أن الفلستيم - الذين ذكرت التوراة اسمهم- ليسوا الفلسطينيين، وهم لم يتسلّلوا من كريت؟ كما أن الشعب الذي تسميّه التوراة بهذا الاسم (الفلستيم) لم يكونوا- في الأصل- يعرفون جزيرة كريت أو سمعوا بها، لأنهم كانوا شعباً وثنياً صغيراً يعيش في عزلات جبلية في اليمن القديم- كما سنبرهن على ذلك بأدّلة قاطعة-.