في فيلم «Two Weeks Notice» يصدم البطل البطلة بقوله: أنتِ مُملّة لأنك مثالية، ويكمل: المثاليّون أشخاص مملّون؛ فتبكي قبل أن تغادره وهي مصدومة بمثاليتها التي لم تعد عملة نادرة في هذا الزمن. هي محامية تدافع عن حقوق المجتمع إلى درجة أنها قد تفترش -بجسدها الضئيل النحيل- شارعاً عاماً لتواجه (بلدوزر) يتأهب لهدم مبنى تراثي قديم، وهو رجل أعمال مشهور وناجح لا يتورّع عن هدم أي قيمة إنسانية أو اجتماعية في سبيل المال، ولا يفكر في المجتمع إلا من باب الأرقام والربح والخسارة! ولكن مثاليتها تنتصر في آخر الفيلم بأعجوبة (كما هو الحال عادة في الأفلام الأمريكية) وذلك حين تترك البطلة شركته دفاعاً عن مثاليتها، فيبحث هو عنها حين يدرك أنه قد وقع في حبها، وأنه غير قادر على تدبير أموره حتى الخاصة منها (مثل اختيار بدلته وحذائه) دون الرجوع إلى مثاليتها المزعجة التي أصبحت تمثّل له اعتيادًا أكثر من كونها مبدأ وقيمة. ليس هذا المهم؛ فالمهم أن (المثالية المملّة) انتصرت في نهاية الفيلم حين همس البطل في أذن البطلة قائلاً: أحببتك لأنك لا تشبهين غيرك؛ أنت نادرة ومميّزة، رغم أنك مزعجة أحياناً! وفقاً لرؤية هذا الفيلم –الذي نجح في توصيف ما يحدث اليوم- فإن المثالية مملّة وفاشلة؛ لأنها من ألد أعداء لغة المال والأعمال. فالربح المادي البحت لا يضع المصالح الإنسانية العامة ولا القيم التاريخية نصب عينيه؛ لأنها تتنافى مع خططه في التوسع والانتشار والربح الفاحش والسريع في آن. كما أن المثاليّين مملّون لأنهم لا يرتكبون الأخطاء؛ فهم يسعون إلى الاكتمال في كل جوانب حياتهم وكأنهم ليسوا بشرا! أما غير المثاليّين فإنهم بشر طبيعيّون يقفزون فوق المبادئ والقيم برشاقة عجيبة. وبالرغم من أنهم يضعون مصالحهم في المقام الأول ويؤذون الآخرين، إلا أنهم -في الوقت ذاته- يخطئون ويعتذرون كما يجب أن يكون عليه البشر! هذا المبدأ (غير المثالي) -إلا في الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه- يحقق لأصحابه نوعاً من النجاح الساحق والمُلفت في آن. ساحق لأنه يضع مصلحته في المقام الأول، وملفت لأنه يحقق انتشاراً لما يصاحبه من جلبة وضجيج يشكّل مادة دسمة للأخذ والرد والقال والقيل وجذب الأضواء، وبالتالي لتحقيق مكاسب قد يكون أهمها الربح المادي. هذه الأجواء الساخنة من الضجيج تُحدث نوعاً من الحركة التي تكسر جليد المجتمعات الراكدة، وتبث الحركة في أطرافها اليابسة. وفي الوقت ذاته تضع الخطأ والصواب في طبق واحد مانحة الآخرين الفرصة لتجريبهما ومناقشتهما، أو بمعنى آخر لالتهامهما وهضمهما سوياً دون التفريق بين الطعمين. هذا المبدأ وإن بدا غير مثالي فإنه يكشف أن المجتمعات، بل إن البشر عموماً ليسوا مثاليّين، ولا ينبغي أن يكونوا كذلك. وإذا اتفقنا أن البشر ليسوا مثاليّين بالضرورة – لأنهم بشر ببساطة- جاز لنا أن نسمّي هذا النوع من (غير المثالية) بالمثالية الواقعيّة أو الحتميّة لأنها من لوازم البشر وخصائصهم. وهذه فلسفة أخرى في فهم معنى المثالية الواقعية؛ أي مثالية البشر كما هم عليه لا كما يجب أن يكونوا. هذه المثالية تنزل إلى الحياة الواقعيّة المعاشة وتنطلق من ساحة التجربة لتبني وتُدمّر في آن واحد، وتجرَح وتُجرَح. وذلك على العكس تماماً من المثالية الأخرى التي تهتم بالبناء لا بالهدم، ولكنها –في ذات الوقت- تعيش آمنة مطمئنّة بين أحضان الكتب في عالم افتراضي بعيداً عن (الخربشة) والتجريح! ولكن خطورة هذا النوع من الطرح الواقعي (غير المثالي) في أنه وكما هو كفيل بإحداث الحركة التي تكسر الجمود؛ فإنه أيضاً –وبنفس القدر- كفيلٌ بتأسيس وخلق كائنات مغشوشة يصل بها الحد في ثقتها بنفسها وتصديقها لما تفعل بأن تكون أيقونات لغباء من نوع غريب! يقلّده من لا يحسنون التفريق بين النوعين أو بين الطَعمين؛ لأن من يسنّه نجوم تجاوزت نجوميتهم المحليّة إلى العالمية بالرغم من أنهم يسيرون على قدمٍ واحدة؛ فكيف لو ساروا على قدمين! لا أقل وقتها من أن توزّع صورهم وإعلاناتهم في الفضاء، وأن يكونوا نجوماً في زحل وعطارد وما جاورها. والأمثلة على هذا النوع من النجومية التي حققها النجاح (غير المثالي) كثيرة؛ نراها في مجالات عدّة في السياسة والاقتصاد والإعلام والأدب والفن. ونرى نجومها وقد سارت بأخبارهم رُكبان الفضائيات وقوافل صفحات الإنترنت ومواقعه. هذه النجوم غير لامعة في كنهها وحقيقتها، بل في انتشارها وتفننها في كسر السائد وإحلال الصاعق والصادم وغير المألوف محلّه استجلاباً لمزيدٍ من الدهشة التي تقود إلى الافتتان الذي يتبعه التقليد لا محالة. تقليدٌ يعمل على تأسيس نوع عصري وواقعي وصادم جداً من (المثالية الواقعية) مثالية البشر كما هم عليه، لا كما يجب أن يكونوا! ولكن: هل نحن جميعاً إلا بشر؟! يبدو أن التفكير بمثاليّة (مُتخيّلة وغير واقعية) للإجابة عن هذا السؤال لن تقود إلى جواب حاسم ومطلق ونهائي. وقد يكون الحل في تجريب أداة بحث أخرى والتفكير باستخدام منهج (المثالية الواقعية الناجحة) وفقاً لمقاييس هذا العصر. سأفترض أن من قد يجرّبون ذلك -وهذا حقهم تماماً- سيرون صورهم في شاشات تليفزيونات (زحل) تصاحبها إعلانات عن نجاحاتهم في صُحف ومجلات (عطارد)، تُباركها أحاديث عن نجوميتهم في مواقع إنترنت (المريخ). وسيعلمون وقتها أنهم قد وصلوا، وأنهم ليسو مجرّد مثاليّين مملّين، والأهم: أنهم سيتأكدون أنهم بشر. ولكن: هل يعني هذا أن (المثاليّون المُملّون) لا يستطيعون الوصول إلى الكواكب الفضائية أيضاً؟ وهل يعني أنهم ليسوا بشرا؟ ذلك هو السؤال الصادم والمحيّر في آن!