كنا قد توقفنا في الجزء السابق من هذا الموضوع عند تبيان الراحة النفسية التي تحصل لأي مريض نتيجة قراءة القرآن عليه بسبب اطمئنان القلب للذكر والتلاوة، ونواصل في هذا الجزء بيان حالات الممسوسين. فأعراض المس في الغالب تجعل صاحبه أكثر ميلاً للهو والعبث والتلذذ بسماع الأغاني بشكل مفرط والهروب من المساجد والخوف من قراءة القرآن. هذه قد تكون مؤشرات لبعض حالات المس وليست كل القرائن الدالة عليه. فإذا بدأ الراقي بالقراءة وعطس المريض او تحرك أي حركة لا يعني ذلك دليلاً على وجود المس، فبعض المرضى -عافانا الله وإياكم- ممن يكونون قد ابتلوا سابقاً باستعمال مخدرات كالكبتاجون ويرى تخيلات معينة وتصرفات سلوكية مثل الاعتداء على من حوله، فإذا وافق عنده هذا الجانب مع وجود الوسواس والإيحاء من الراقي سرعان ما يقتنع من حوله ويقتنع هو بوجود المس، وقد يقتنع المريض ولو من باب تغطية ومواراة المشكلة التي هو فيها (مشكلة المخدرات) ومن ثم يتقمص شخصية الجن والراقي في هذه الحالة، ليس متعمداً ذلك ولكن قد لا يكون لديه العلم الكافي للتفريق بين الظواهر والأعراض وردها الى مردها الحقيقي، ويحرم المريض في هذه الحالة من التوجيه الى العلاج الحقيقي، وهو علاج إدمان المخدرات وانتشاله من هوة الإدمان. وهناك نوع آخر من المرضى قد يعاني من اكتئاب نفسي شديد او انفصام في الشخصية، وكما أسلفت، فقلة من الرقاة لا يستطيعون التفريق بين المرض النفسي او العضوي وبين المس، ومن السهل على المصاب بانفصام الشخصية أن يتقمص أي شخصية، كأن يدعي الرجل أنه كان اسمه فاطمة أو حصة أو هيا، وتدعي المرأة أن معها جني اسمه كذا. ولكن أين الراقي المتمكن الذي يستطيع أن يثبت أو ينفي على علم وليس على تخمين أن هذا رجل في امرأة، أو أن هذه امرأة في رجل. ومن الواجب على الراقي أولاً استبعاد المس واقناع المريض وذويه بذلك، ويبحث في الحالات الأخرى، فإذا لم يجد أي سبب آخر عضوي أو نفسي في هذه الحالة يمكن القول بوجود المس، ويبدأ العلاج بتوجيه النصيحة للمريض نفسه بالإكثار من قراءة القرآن الكريم وذكر الله، وإقناعه أن الشيطان ضعيف وأن الجن ليسوا أقوى من الإنس خاصة إذا كان هذا الفرد من الأنس ذاكراً لله ومؤدياً لواجباته الدينية. وهنا يخلق لدى المريض مقاومة ورفض داخلي من الاستسلام لوجود مس بداخله وأنه لا فكاك له منه، ثم يأتي بعد ذلك دور القراءة بالرقية الشرعية مع نصيحة الأهل أيضاً أن يساعدوا هذا المريض أيضاً بقراءة القرآن وأن لا يتركوه وحيداً، وعزله عن أصدقاء السوء إن كان ممن لديه مثل هؤلاء الأصدقاء. وعلى افتراض وجود المس، فمن واجب الراقي ردع صاحب المس أو صاحبته من الإتيان بتلك الحركات المتشنجة أثناء القراءة مثل الصراخ أو التعصب ومحاولة ضرب من حولهم، وأن يقرأ الراقي من دون أي انفعالات، فصاحب المس هنا ثبت نفسه بنفسه، فالمس يفقده الوعي ولا يستجيب لطلبات الراقي، فمثلاً يقول له حاول أن تذكر الله فلا يستطيع، ويقول حاول أن تضبط تصرفاتك فلا يقدر، لأن الأمر خارج عن إرادته، وهنا يكن المس ثابتاً واضحاً. وهناك نوع من المرضى قد يكون مصاباً بالعين او السحر، وكما أسلفت، فإن القراءة الهادئة غير المنفعلة من قبل الراقي هي التي تبين الفرق، أما أولئك الذين يتقلبون ويأتون بحركات في مجالس الرقية، او النساء اللواتي يتكشفن عند الرجال في مجالس الرقية أيضاً لكي يثبتوا أن عندهم مس، مثل هؤلاء المرضى الأدعى الى العقل والمنطق استبعاد المس منهم والبحث عن أسباب أخرى، لأن المريض هنا هو الذي يحاول أثبات المس وليس الراقي، وقد يأتي بحركات سمع عنها او شاهدها حتى في بعض الأفلام والمسلسلات التي تناولت هذا الجانب. وأترككم في هذا الجزء عند هذا الحد، لنستعرض في الجزء الثالث حالات المس المفتعلة من قبل بعض المرضى وأسبابها.