في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية الآن ومنذ سنوات، موجة من الخوف من كل ما يأتينا من الغرب من أفكار وخطط وطرق ومسالك ومخارج ومشاريع، وهذا الخوف له مصطلح في علم النفس هو (سنتوفوبيا) أو (سينوفوبيا) وهو الرُهاب (أو الخوف المرضي القاتل) من كل الأفكار والأشياء الجديدة. و(الفوبيا) كلمة يونانية الأصل، دخلت اللغات الأوروبية، ومنها الإنكليزية، ويُراد بها وصف حالة الخوف المرَضي، ثم أصبحت هذه الكلمة تستخدم كبديل له معنى أعمق عن معني مجرد (الخوف) وهو (الرُّهاب). ومع قوة موروثنا الفقهي، وغزارة ثقافتنا الإسلامية والعربية، إلا أنك تجدُ الكثير يتخوَّف على تلك الثقافة، بل ويصيبه الهَلَع والخوف من كلِّ شيءٍ خارجي يقتربُ منها؛ علماً أنَّ الثقافة التي تخشى الآخرين، والاقتراب منهم، والتلاقح معهم، هي ثقافة هشّة، ومريضة ومهزوزة، وأربأُ بثقافتنا الإسلامية والعربية أن تكون كذلك؛ فثقافتنا ثقافة قوية ومتينة، واثقة من نفسها، لم تخشَ التلاقح مع الثقافات الفارسية واليونانية والهندية، وغيرها من الثقافات السائدة في القرن التاسع الميلادي، وقبل هذا التاريخ. ولقد استطاعت الثقافة اليابانية أن تملك قدرة الانفتاح على الثقافات الغربية دون أن تفقد هويتها الوطنية، وأن تتلاقح مع هذه الثقافات بعد الحرب العالمية الثانية، وتستفيد منها في علمها وتطورها وصناعتها وحتى في أدبها وفنونها المختلفة، كذلك الحال كان مع الثقافة الكورية والثقافة الصينية وغيرها من الثقافات. والحضارة الإسلامية عندما دان العالم لها بالقوة والسيادة، لم تسعَ إلى ابتلاع الآخر، أو فرض هيمنتها على الآخرين، بل هي على العكس فلو نظرنا إلى هذه الحضارة؛ لوجدنا أن أهم سماتها هو التواصل والتفاعل مع الحضارات المجاورة، فلقد استفادت الحضارة الإسلامية من تراث الإغريق والرومان، فقد تم ترجمة مؤلفات أرسطو وطب أبقراط وهندسة أقليدس، ثم أبدع العالم المسلم من قريحته الفكرية وأضاف إلى هذه الأفكار أفكارًا أخرى وظهر طب ابن سينا ويتمثل ذلك في كتاب «القانون» في الطب، ومن خلال الترجمة ونهوض العلوم الطبيعية العربية في العصر العباسي، وفي عصر الخليفة المأمون على وجه الخصوص، على الرغم من بطء التلاقح بين الحضارات والثقافات القديمة لبطء الاتصالات، فلم تسعَ الحضارة الإسلامية إلى ابتلاع الحضارات المجاورة، أو إقصاء ثقافات الآخرين . إنَّ التعارف والتعاون بين الشعوب سمة أساسية من سمات الإسلام الحنيف، وليس أدل على هذا من بلاغة القرآن الكريم، فلو نظرنا في سورة الحجرات، لوجدنا أن المولى تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (13) سورة الحجرات، فالالتقاء بين الأمم والشعوب مطلب رباني؛ لمزيد من التفاعل والتواصل الحضاري. والقواسم المشتركة بيننا وبين الغرب كثيرة، لتفعيل الحوار الحضاري، وأول هذه القواسم ترسيخ مبدأ التعايش في سلام، فالإسلام دين السلام بأوسع معانيه؛ لأنَّ كلمة الإسلام تعني السلام، أو إسلام الوجه لله، وتحية الإسلام السلام، والإسلام يدعو إلى السلام النفسي للفرد والمجتمع، ومن هنا فإن التأكيد على هذه الحقيقة مبدأ إسلامي أصيل. وديننا يؤكد حقيقة «السلام» بمعناه الكامل؛ فلو نظرنا إلى تاريخ السيرة العطرة في دولة المدينة؛ لوجدنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد كتبَ ميثاق المدينة وهو عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين واليهود، فقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم لليهود حقوقهم كاملة، «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، بل تُوفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بعشرة أصوع - كما في صحيح البخاري ومسلم - فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم أقليات، بل نظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى بلغة الفكر المعاصر، وهذا هو تاريخ حضارتنا في التعامل مع «قيمة التعايش» في سلام، ومن هذا المنطلق، فالسؤال المطروح: هل الغرب يطبق هذه القيمة في العالم المعاصر؟ أيضًا التعاون بين الأمم والشعوب في كل المجالات اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، فالدعوة إلى تعزيز العلاقات بين الأمم والشعوب تعزز التواصل الثقافي والحوار الحضاري، وتزيل كابوس «الخوف من الآخر». وليس معنى التواصل: التخلي عن الثوابت العقدية، والقِيَم الأخلاقية التي هي أخص خصائص ثقافتنا الإسلامية، أو المطالبة بالإيمان بثوابت الآخرين؛ لكن المقصود أن لا نُقصي الآخر، ولا نحترم ثوابته وثقافته التي يؤمن بها، ومن هنا تكون أرضية الحوار أرضية بناءة لمزيد من التلاقي والتلاقح بين الشعوب والحضارات. وأَختمُ هذه المقالة بكلامٍ نفيس للشيخ السعدي على قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} (256) سورة البقرة، يقول: «هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله وقبول الفطرة له، لا يحتاج إلى الإكراه عليه؛ لأنَّ الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لما تخفى براهينه وآياته». * جامعة القصيم