ما أقسى الكلمات حين تخرج من الروح.. وما أقسى المعاني التي تعذب روحي وتترك لها أثراً ورسماً في وجه التاريخ.. لا تغفل عنها الأيام والسنون ولا تمحيها الذكريات خاصة عندما تكتب عن والدك الذي غيبه الموت، رحمه الله. تمر وتقف أمامي لحظات اللقاء.. وأنا أودع والدي رحمه الله (هليل الرويلي) وأماني الفرح والحلم والتوجيه والدعاء والترقب والانتظار.. ثم تمر وتقف أمامي لحظات الفراق واللوعة والوداع والرحيل.. آه ما أقسى الرحيل وما أصعب ثوانيه ولحظاته المريرة. لا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.. لقد رحل ذلك الشيخ الجليل رحل بعد أن أرهقته السنون وحملته الأيام بالعناء والتعب.. لقد رحل أبي بعد أن غزته الأمراض وقهرته الظروف لكنه ظل شامخاً كالجبل الأشم شامخاً في وجه الريح كالبطل الشجاع حينما يموت يأبى أن يموت إلا واقفاً وسيفه في يمينه.. هكذا رحل أبي عن الدنيا وبعينيه ألف ابتسامة وبصوته ألف لحن للسعادة والفرح.. لقد كان أبي متسامحاً متصالحاً مع نفسه ومع أهله ومع جميع من هم حوله.. لم يكن يرحمه الله جازعاً أو ساخطاً أو شاكياً.. رحل بصمت مثلما عاش بصمت.. هكذا كان أبي في سنوات عمره الأخيرة لا يعرف سوى طريق المسجد ولا يجيب سوى صوت الأذان -الله أكبر-. انعزل منذ أكثر من عشر سنوات عن العالم من حوله واختار أن يتصل بالدائم الباقي.. اتصل بربه ولبى نداءه.. وعندما حضرته المنية وفارقت روحه الشريفة جسده الطاهر اتصلت بأخي بعد أن نقلته للمستشفى وطلبت منه أن يترك جميع أعماله فوالدي بالعناية المركزة وحالته خطيرة جداً فقال إنني أعرف بأنه مات فلقد رأيت اليوم بعد صلاة الفجر أن العاصمة تتفجر... نعم لقد صدقت رؤيتك يا أخي لقد تفجرت عاصمة بيتنا ورياضه العطرة لقد فارقت روح أبي الحياة.. فحضر أخي ورفع الغطاء عن وجهه وقبل جبينه.. ما أجمل قبلة الوداع وما أزكى رائحة الأحباب حتى وهم ميتون.. ما أجمل قبلة الموت فهي التي ستخلد بالذاكرة طويلاً لأنها لا تحصل سوى مرة بالعمر.. أما بقية القبلات فيمكننا أن نوزعها وقتما نحب وعلى من نحب.. لقد اختار الله أن يقبض روح والدي وهو على صدري.. مسجاً على صدري أنتظر عودة روحه لكنها لم تعد.. لله ما أخذ ولله ما أبقى.. أسأل الله أن يجعلك بالفردوس الأعلى يا والدي فنعم الأب كنت ونعم الصاحب أنت.. وجزى الله خيراً كل تلك الأيادي البيضاء النقية التي حضرت معزية.. وجزى الله خيراً كل تلك الأصوات الصادقة التي اتصلت معزية.. وجزى الله خيراً كل تلك الرسائل التي أرسلت داعية ومواسية وطالبةً لوالدي الرحمة والمغفرة.. إلى جنان الخلد يا أبي وأسأل الله تعالى بعفوه ورحمته أن يجمعنا بك في دار الخلد. بعد وفاتك يا والدي رثتك روحي بهذه الأبيات: عجزت أباري لحظة البين والبين وصار السهر من ضوِّ عيني مباهير ظليت أضمه واذكر الله وسنين وأنا صغير ولا اسعفتني التعابير ربيتنا بإحسان يا والدي زين أنا أشهد إنه ما حصل منك تقصير ما غير أذكّر قلب غافل عن الدين وما غير أسلِّي خاطري بالتفاكير أذكر كلامه ضحكته.. أذكره زين وجهه سنابل قمح وجهه تباشير أشوف وجهه بالمساجد مياذين وأشوف وجهه بالمنابر تصاوير ايدينه أصدق من كفوف المحبين تندى يمينه بالعطا والتقادير قلبه مكان الحب قلبه عناوين قلبه سحابة خير قلبه أغادير أنا أشهد إن البعد عنكم كما الدين أكبر خساره لا حسبنا المخاسير خسرت أبوي وكل ما أملك ما هو شين من عقب أبويه دنيتي مابها خير صفوا عليه الناس وصلى المصلين وشالوه بالأكتاف وساروا طوابير وحطوه وسط القبر مابين جالين مرحوم ياقبرٍ شمالٍ عن صوير ياعل قبرٍ ضمه اليوم لسنين ينبت عليه من الزهر والنواوير ويوم الحشر مع زمرة الخير والدين مع الرسول وكل خيّر له مجير للي قضوا حياتهم كلها وين؟ بذكر وصلاة وخير.. فهم على خير يارد على حوض النبي ويرتوي لين يطفي ضماه ويشع وجهه تباشير وينزل مع الأبرار في دار علين وفي جنة الفردوس يكتب له الخير * محرر بالجزيرة عضو مجلس إدارة النادي الأدبي بالجوف