الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوى أمير حائل السابق - رحمه الله - رجل علم وحكمة، وإدارة كان في أعماله الإدارية يعتمد على نفسه، فلم يكن يعتمد على كتابه ومساعديه، بل يقوم بنفسه بالإجابة على ما يرده من كتب وبرقيات من الملك أو أمراء المراكز. أما ما كان يرد إليه من كتب من بعض أفراد حاشيته أو من عامه الناس، وفي طياتها أمور شخصية فإنه لم يكن يطلع عليها أحد حتى كبار موظفيه، بل كان يحتفظ بها ويرد عليها بما يراه، حرصا على كرامات الناس وأسرارهم فقد كان - رحمه الله - شديد الحساسية من هذه الناحية ولذلك أحرق جميع الكتب التي تتسم بالطابع الشخصي وأبقى الكتب الرسمية التي تعالج أمورا إدارية أو عامة، وذلك قبل وفاته بقليل. وكان لا يغفل أي رسالة ترد إليه حتى لو كانت من عامة الناس, فقد وصلته رسالة وهو في الرياض بعد تركه العمل من امراة يقال لها سلمى، وهي عجوز في السبعين تقول له: لقد وهبتم - فلانا - أرضا أمام بيتي وفيها مضرة علي. اهتم سموه بهذا الأمر وكتب إليها: من عبد العزيز بن مساعد إلي سلمى.. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته وبعد؛ كتابك وصل وتذكرين أننا أعطينا أرضا أمام بيتك وأن فيها مضرة عليك معلوم أنني لم أهب أي شخص منذ توليت الولاية إلا وأذكر في هبتي هذه العبارة (إلا إن كان على أحد في ذلك مضرة أو دعوى شرعية فمرد الجميع إلى الشرع). وأنت ِ اعرضي كتابي هذا على أمير البلاد (الابن سعد) أو على قاضي البلد، فيحضرن ورقة الهبة، ويحكمون الشرع فيها، فأنا لا أرضى أن يعتدي أحد على أحد بسببي، وكانت هذي عادته, لم يهب أحد شيئا إلا استثنى وقال: إلا إن كان على أحد في ذلك مضرة أو دعوى شرعية فمرد الجميع إلى الشرع في عام 1377 ه كان الملك فيصل ولي العهد آنذاك في رحلة صيد في نواحي حائل. فخفف سمو الأمير عبدا لعزيز بن مساعد للسلام عليه فقابله في الفغانة وهي محل في الغبية جنوب حائل وأمضى ليلته عنده. وبينما كانوا يتسامرون سأله الملك فيصل عما لاحظه من أنه عندما يرد على مكاتباتهم في مستهل الرد خلاصة الكتاب أو البرقية الواردة إليه، ثم سأله عن السبب في ذلك فقال سموه إنني أفعل ذلك متعمدا فإن كنتم قد قلتم ما وردني عنكم قد تبلغته، وإن لم تكونوا قلتموه فأنا أحيطكم علما لتفيدوني بما ترون، لأن كثيرا من الكتاب يتصرفون في تحرير الخطابات على هواهم أو يغيرون ويبدلون فيها كما يشاءون ومنعا لذلك واحتراسا منه جريت على هذه العادة فسر الملك فيصل كثيرا. ونادى كاتبه محمد بن نويصر وأعاد على مسامعه مقالة الأمير مثنيا عليها. وكان دائم التفقد لشؤون المناطق التي يديرها فكان يخرج في رحلاته التفقدية فيمكث في الرحلة الشهر والشهرين، حتى أنه في بعض السنين لم يكن يقيم في حائل سوى شهرين فقط، وباقي المدة أمضاه في رحلاته التفقدية ومعه كتابه وموظفوه ومرافقوه. وإن كان على الدوام يأمر مستخدميه وموظفيه بالاعتدال في المصروفات ويدقق في ذلك كثيرا وينتقد الإسراف والتظاهر بالبذخ. ولكنه كان في الأمور التي تستوجب الصرف الكثير وتستدعي الكرم والبذل كريما جوادا معطاء فيسرف في الإنفاق على ذلك أما في الأمور التي لا تستوجب الصرف فلم يكن يسمح بصرف أي مبلغ مهما كان تافها إلا بعد اطلاعه وعلمه. وكان شديد العناية بما تحت يده من معدات ولوازم كالسيارات والخيام والسلاح، فكان كل شيء مقيدا وموضوعا وفق نظام معين. وكان من وقت لآخر يتفقد ذلك ويسأل عنه. وكان في إنفاقه وعطاياه وهباته لا يؤمن بالمجاملة. فلا يعطي إلا لمستحق ولا ينفق إلا في واجب أو لازم أما الإنفاق من أجل أن يقال عنه أنه كريم مفضال فهذا شيء لم يكن يؤمن به ولم يكن يوليه اهتمامه. ولذلك فجميع العاملين معه في نظره سواء فلو طلب منه أحدهم فرسا أو سيارة أو شيئا أعجبه فإما أن يعطيه إياه وأما إن يقول له: لا، طلبه فلان. وقد يكون فلانا هذا أقل شأنا أو منصبا أو رتبة فالكاتب وزمال الخيل وسائق السيارة عنده في الحقوق سواء. لقد كانت المساواة إحدى دعائم معاملته لموظفيه ومستخدميه. وكان يرى أن أهم دعائم النظام هي هيبة الحاكم في نفوس المحكومين لذلك لم يكن يسمح أن تجري بحضوره مناقشات ومجادلات مسفة تافهة ولم يكن يسمح للعاملين معه بالتردد على الناس وقبول دعواتهم خشية استغلال مراكزهم أو خشية أن يطمع فيهم ذويهم أو أقاربهم، ولم يكن للوافدين عليه مجال يسمح لهم بقبول الهدايا أو تلبية الدعوات ما داموا في ضيافته. لقد كان يرى أن المسئول يجب أن يحفظ مركزه من استغلال الآخرين له مهما كانت صلتهم أو قرابتهم. وكان يرى أن المسئول يجب أن يعرف كل صغيرة وكبيرة مما تحت يده من الأمور، وأن العاملين معه لا ينبغي أن يصدر أحدهم أمرا من قبله دون الرجوع إليه مهما كان الموضوع بسيطا أو تافها. وكانت هيبته تقع فقط في قلوب المجرمين والمتعدين والمدعى عليهم، أما المتظلمين وأصحاب الحاجات والقاصدين فقد كان كل وقته من قبل شروق الشمس وحتى ساعة متأخرة من الليل ملكا لهم يفتح لهم ذراعيه وقلبه لحل مشكلاتهم ورد ظلاماتهم وقضاء حاجاتهم. حتى السجناء كان دائم التفقد لأحوالهم والتأكد من أن أكلهم وشربهم يجري كالمعتاد وفق ما يأمر به، وأنهم لا يتعرضون في سجنهم للأذى والمضايقة، وكثير ما تناول السجانين باللوم والتأنيب لتقصيرهم في رعاية السجناء. وكان موضوع حفظ الأمن واستتباب النظام أمام عينيه دائما لا يغفل عنه ساعة من ليل أو نهار. فكان يتفقد القصر كل ليله وقد تقلد سيفه وفي إحدى الليالي مر ببواب قصره واسمه (ابن مليحان) فوجده نائما عند الباب، فأخذ المفاتيح من تحت رأسه ومضى لشأنه. وعند الفجر جاء الشيخ عبد الرحمن البراك، إمام مسجد القصر، على عادته للصلاة، فطرق الباب وهب ابن مليحان ليفتح له فلم يجد المفاتيح، أما الأمير فقد ذهب على عادته للصلاة وكأن شيئا لم يحدث. وحين دخل وقت الصلاة أمر بإقامة الصلاة وأم بالناس. ثم سأل عن ابن براك وعن عدم حضوره فعلم أنه بالباب وأنه قد أضاع المفاتيح، أحضره بين يديه وسأله عن المفاتيح فلم يجد جوابا ولم يعرف كيف أخذت منه. عندئذ أدبه سموه وعاقبه عقابا تعلم منه فيما بعد كيف يحرص على المفاتيح. وقال له: هذه المفاتيح أخذتها من تحت راسك وأنت نائم فلو أن سجينا أراد الهرب أو أن عدوا أراد اقتحام القصر لما استطعت أن تفعل شيئا وفي هذا خطر كبير على الأمن وضبط النظام ! فلا تعد إلى مثلها !!وكان من عادة سموه في كل عام أن يخرج إلى (أبوعز) وهو بئر ماء ترده الخيل ويقع على بعد 30 كيلو مترا جنوب حائل. وكان يقصد سموه هناك وجوه أهل حائل وفي مقدمتهم كبار آل سبهان حيث ينعمون بقضاء وقت ممتع في ضيافة سموه. ويروي ناصر بن مبيريك أن فهد البريدي حدثه فقال: خرجت مع سمو الأمير إلى أبو. وكان روتين العمل عنده لا يتغير في جمعة أو عيد سواء أكان في المدينة أو في البر، فكل أيامه عمل متواصل لا ينتهي وأينما خرج خرج معه كتابه وموظفوه فكأنهم في دوام متواصل. وكان يخاطب الذين يتجاوزن النظام أو ينحرفون عن جادة الصواب أو يسيرون مع الهوى بمنتهى الحزم والشدة، وكانت كتاباته لهم تصل إلى حد التوبيخ والتقريع الشديد مهما كانت منزلة المخاطب ومهما كان مركزه فقد كان لا يجامل في الحق بل كان يقول الحق مهما كان مرا. وعلى الجملة فقد كانت هذه وقفات قصيرة عند بعض المواقف في حياه سموه الإدارية، وهي دروس وعظات وعبر في حسن المعاملة والإدارة، والإيثار والسير مع الحق بنزاهة وتجرد لإقامة العدل بين الناس. وهي دروس بليغة في سعة الصدر والحلم والرغبة الصادقة في تحرى الحقيقة لتكون أحكامه بموجبها دون أن يكون للمشاعر الدفينة الخاصة والذكريات القديمة الشخصية أي نصيب من التأثير على عدالة الحكم ونزاهته. المرجع - الأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوى حياته ومآثره