* نمط من الشبان الملتزمين، يحكمه خلق وأدب نفس، وسمة الأوفياء المهذبين، وقليل أولئك الذين يتسمون بهذه الخصال الحميدة من أمثاله.. والخلق الحسن في أي مكان، وفي أي جنس من البشر ميزة وخاصية، يهبها الرحمن لمن شاء من خلقه، كعوض لمن لم يتح له مال أو مركز، ليكون محط أنظار الناس، ولا سيما من ذوي الحاجات، الذين تضطرهم الحياة أن يسعوا وأن يتقربوا إلى هذه الأنماط، ليكون لهم شيء من حظ، لأنهم لا يستطيعون أن يصبروا أو أن يرضوا بما آتاهم الله من فضله، فنفوسهم تتطلع إلى ما لم يصلوا إليه.! * قبل نحو ثلاثين سنة، عرفت الأخ عبدالله بامحرز رحمه الله، في ذلك الدكان ، الذي يبيع القرطاسية ونحوها، في السوق الكبير، على طرف من شارع قابل، شاب ذو ملامح فيها توهج وطموح وعزم، وتطلع إلى المستقبل، لا أقول بثقة، لأنه لا يملك الكثير مما يحقق له الطموح، وما أكثر الذين يصبون إلى الحياة الكريمة وهم يسعون في الأرض بعزم وإرادة، غير أن الحظوظ لا يملكونها، ولا يصل إليها جميع الطامحين.! * بدء التعارف مع الأخ بامحرز، سبيله الأخ سالم بن محفوظ، يوم كنا نلتقي، ولم تشغله الدنيا كما هي حاله اليوم.. فوجدت في بامحرز شيئاً من خصائص الطامحين، ولا سيما أنه نهم إلى المعرفة ويكتب القصة، ويسعى إلى التعرف إلى أهل الأدب، لا سيما الشبان الذين في سنه، وكان له نصيب من معرفة نماذج منهم، يمرون عابرين بالمحل الذي يعمل به، وصار لهم ملتقى في إحدى المقاهي البعيدة عن الزحام، يجتمعون فيه حين يفرغون من أعمالهم، فيتحدثون في الأدب، وهم متابعون لما تحمله الصحافة من ألوان المعرفة، ويتابعون الجديد من كتب الثقافة، لا سيما ما يصدر خارج البلاد، وهم جادون في متابعاتهم، فيشترون هذه الكتب وتلك المجلات ولو كانوا في ضائقة مادية، ذلك أنهم نهمون إلى كل جديد، فهم يريدون أن يلموا بما تحفل به الساحات الأدبية في كل مكان، لأنهم متعطشون وراغبون في كل ما يرقى بطموحاتهم ومعارفهم، وعبدالله بامحرز، كان من هذا النمط الطموح الجاد المستقيم، مع تواضع نفس مهذبة، ليس فيها نفور، ولا تحمل أدران البغض.! * وتمضي الأيام، وتبعد المساكن، وينشغل الناس بهموم الحياة، وتتغير أنماط منها، فلا يلتقي الناس إلاَّ لماماً.. وبَعُد سالم بن محفوظ، ويرحل بامحرز إلى اليمن، رحيل الصامتين الصابرين.. وكل يوم يتغيب عن الحياة خلق، فيهم من نعرف ومن لا نعرف، وذلك دأب الحياة والأحياء.! * ونسمع باخرة، بعد شهور تبلغ السبعة، أن عبدالله بامحرز، توفاه الله، ويكتب بعض محبيه مرثين له، متحسرين على بعده أولاً، ثم فراقه.. وأقرأ شيئاً من تلك السطور الباهتة أو على الأقل أكثرها، فأترحم على الصديق ذي الخلق الساجح واللطيف المهذب.. وكم وددت أن تمتد عرى العلاقة، وأن يبقى قريباً، لنلتقي ونلقي بأشجاننا وأحلامنا وشكاوانا، ونرى صاحبنا وهو يسوح في القراءة، ويكتب الآلام والأحاسيس، من دافق نفسه الطموح، وحسه المتوهج، ورؤاه الحالمة، غير أن الحياة قلّب وأغيار.. وكم يريد المرء، ولكنه لا يحقق إلاَّ ما كتب له. * أجل : إن الحياة فراق بعد لقاء، وبعدٌ بعد قرب، وعزيز على النفس أن تفقد ما ومن تحب، ولكنها سنة الله في خلقه وكونه.. رحم الله ذلك الوجه الباش المحب، والنظرات الطامحة الحية، الحفيلة بحياة وأمل وحياة الحياة.!