منذ أشهر استضافت فضائية لبنانية «لا أذكر أهي المستقبل، أم إل بي سي» المطرب اللبناني الشهير، الشاب السبعيني، وديع الصافي، واستضافت معه مغنياً أسبانياً، كما تمت أثناء الحلقة استضافة عدد من أبنائه وأحفاده. وفي نهاية الحلقة رتبت محطة التلفزيون اتصالا هاتفيا بين وديع وابنته المقيمة في البرازيل، والتي لم يرها منذ سنتين أو ثلاث. كان الحديث مشحوناً بالعواطف الجياشة بين أب وابنته. تهدج صوت وديع واغرورقت عيناه بالدموع، وبين جمهور الحاضرين كانت الأم والأخت تمسحان دموعهما بصمت، وران جو من الصمت الحزين بين الحضور. أما المفاجأة المبهجة المبكية فكانت ان المحطة قد رتبت حضور ابنة وديع من البرازيل دون ان يعرف أحد من أهلها ذلك. وكان الاتصال الدولي المزعوم إنما يدور بين الأب في الأستوديو، والبنت في غرفة جانبية. وحالما انتهى الاتصال الهاتفي دخلت الفتاة ليلاقيها أبوها وديع، وأمها، وأختها، بالعناق والقبلات والدموع. كان مهرجانا للدموع! الجميع يكفكف دموعه، المذيعة والمذيع، والمغني الأسباني، وعدد كبير من الحضور، والمتفرجون في البيوت ومن بينهم كاتب هذه الأسطر. في نظري لم تنهمر الدموع لمجرد اللقاء الجياش بين وديع وابنته، ولكن تم بناء الجو بالتدريج طوال الحلقة كالماء الذي يسخن على النار رويداً رويداً فلا يبدو عليه شيء ظاهرياً حتى يصل الى درجة الغليان. كان وديع الصافي طوال الحلقة صافي المشاعر، وبدا رب أسرة من الطراز الأول. وكانت عاطفته الأبوية تشع على الجمهور، فلا يدعو لأحد من أبنائه أو أسرته، إلا ودعا للجمهور الحضور والمشاهدين:«الله يبارك لكم في أولادكم وبناتكم يارب يا كريم، ويخليهم كيت وكيت..» فتبدى وديع «في اللاوعي» أباً للجميع. أو الأب الذي يتمناه الجميع: ذلك الأب جياش المشاعر الذي يعبر عنها بسلاسة وصفاء، والذي لا يخجل من انسانيته، ولا يعتذر عنها. ليست هذه المقالة لتقريظ وديع الصافي، ولكن للحديث عن مشكلتنا المستديمة مع المشاعر، وخجلنا منها، وخوفنا منها، وحصارنا لها، وازدرائنا إياها، حتى ان المرء يستطيع التعبير بسهولة عن كل ما يشغله عدا المشاعر. وعندما يكتب كلمات حب الى أمه أو أبيه أو حبيبته فهو يلجأ الى مخزن من الأكليشيهات المحفوظة في الذاكرة. وفي الجلسات العلاجية التي أقيمها لعدد من مراجعيّ هالني مدى الحصار الذي فرضته ثقافتنا السائدة على المشاعر، وتجلت لي بصورة جلية الصعوبة التي نواجهها في الانتباه لمشاعرنا والحديث عنها. ونحن عندما نغفل المشاعر إنما نغفل ذلك تلقائيا وبصورة اعتيادية، دون أن نشعر بأن هناك خللاً ما. فإذا سألت أحداً، أو سألك أحدهم اشارة الى موقف معين: بماذا أحسست؟ أو بم شعرت؟ يكون الجواب من قبيل «حسيت إن ودي اضربه» أو «شعرت بأني أريد أن أغادر المكان».. الخ ومن البديه ان مغادرة المكان أو الضرب هي من باب التصرفات «السلوك» لا المشاعر. وإذا كنت في ضائقة مالية ولجأت الى صديق مقتدر ليقرضك فخيب أملك. فإنك قد تنهي روايتك لما حدث بهذه الصورة:«فأحسست إنه دنيء، وسأتحاشى الحديث معه مستقبلا». إنه دنيء: استنتاج تم بعملية تقييم عقلية تدخل ضمن الوظائف الاداركية «Cognitive»، وتحاشي الحديث: تصرف يدخل ضمن العمليات السلوكية «Behaivoure». مرة أخرى انزوت المشاعر في ركن بعيد. وفي الغرب، إذا وقع سوء فهم أو خلاف بين شخصين قريبين من بعضهما البعض فإن أحدهما يبادر في اليوم التالي أو في ذات اليوم قائلا للآخر هل تود أن نتحدث عما حصل. عندنا لا يحدث ذلك أبداً، ولو حدث فإن الآخر يرد بحزم: ليس هناك ما نتحدث عنه! والأدهى من ذلك لو قال أحدهما للآخر هل أنت غاضب! فإن إجابة الآخر في أغلب الأحوال لن تتجاوز احدى هاتين الاجابتين:«لا طبعاً! ولماذا أغضب؟! لا شيء يثير غضبي» ) بينما هو يغلي من الغضب(. أو ينفجر قائلا:«طبعا غاضب وحانق! وتتبجح بسؤالك هذا؟ لو كان لديك قدر ضئيل من الاحساس لما بدر منك كذا وكذا». فيشتعل الخصام من جديد. بل لعل الطرف الآخر يتحاشى الاجابة بأنه غاضب بهدوء، خشية أن يرد عليه الأول: إذاً اضرب برأسك عرض الحائط! ألم أقل لكم أننا نستهين بمشاعرنا!. ويعود استخدامنا الدائم للألفاظ المعبرة عن الاحساس أو الشعور محل التعبير عن الأفكار والسلوك الى الحصار الذي نفرضه الى المشاعر. ولكنه يعود أيضا، وبصورة جزئية، الى ان نوعا من الشعور قد يساعدنا أحيانا على اتخاذ قرار ما، أو اختيار تصرف معين. مثلا قد يقول المرء أحسست ان الكلام يحوي فخاً لي فغيرت موضوع الحديث، أو شعرت بأن عليَّ أن أفعل كذا وكذا. بيد ان هذا الشعور الغامض والذي ينبعث فجأة في النفس كلحظة كشف خاطفة «وليس نتيجة لعملية استنتاج عقلية تحليلية» هو من باب الحدس أو البديه. وبالتالي لا علاقة له بالمشاعر أو العواطف. من المؤكد ان هناك أسباباً أدت الى تجاهل ثقافتنا السائدة للمشاعر وازدرائها لها، وربما كان للصحراء الجافة القاسية دور في ذلك، بيد ان هذا لا يعنيني الآن. ما يهمني هو ان نفتتح الباب للمشاعر، ان نحترم مشاعرنا، ومشاعر الآخرين من حولنا، مهما بدت أمامنا تافهة، أو غير مهمة، وان نحترم حقنا جميعا في التعبير عن المشاعر وان نتعلم الاستماع لها. في داخل كل منا طفل بحاجة لأن يعبر عن عواطفه الايجابية منها والسلبية.. عن همومه الصغيرة.. عن خوفه.. حزنه.. فرحه.. خجله أوشعوره بالذنب. وبحاجة لأن يسمع كلمة أحبك، أو آسف، أو أشكرك، أو اشتاق اليك، ممن يحبهم أو يحبونه. وفي نظري ان العديد من المشاكل الاجتماعية والأسرية بل والنفسية يعود الى كبت المشاعر، وان أهم عيوب سوء التواصل «Communication» يكمن في الاستهانة بالعواطف، وعدم الافصاح عنها، ألم يقل الشاعر المهجري الياس فرحات: وأنكى من الحب كتمانه وأقسى من الهجر فقد الرجا ولو كنت شاعراً لأضفت بيتا يقول والأدهى منها عدم التعبير عن تلك الأحاسيس. جرب عزيزي القارىء ان تستمع لمشاعر طفلك، أو أمك، أو زوجك، أو محبوبك، أو زميلك. دون أي موقف دفاعي منك، أو تبرير، أو نصائح، أو أية محاولة للاقناع. جرب أنت ان تحدثهم عن مشاعرك دون ان تتوقع منهم ان يجاروك في ذلك. فقط تعلم ان تتحدث عن عواطفك، وان تقترب منها، وسيتعلمون ذلك مع الزمن. ان لحديث المشاعر مفعول السحر في صفاء القلوب وتطهير النفوس. ليس لمن حولك فحسب، بل لك أنت بالدرجة الأولى. وفي نظرية أرسطو عن الدراما أن أحد أهم وظائف التراجيديا «المأساة» هي مشاعر الخوف والشفقة التي تتلبس المتفرج عندما يتماهى «يتوحد» مع البطل المعذب، فتحدث للمتفرج حالة التظهر من تلك المشاعر نتيجة خبرته لها وتعبيره عنها. في يوم ما في أواخر فترة دراستي العليا في لندن تعيّن عليَّ الذهاب الى مكتب التسجيل. كان مشوار الذهاب يستغرق ما يزيد على الساعة بين الأتوبيسات ومترو الأنفاق، وكذلك العودة، وأخذت الاستمارة المطلوبة معي بعد ملئها، ولكن الموظفة لفتت نظري، ببيروقراطية بريطانية أصيلة، الى نقص تافه هو ان المشرف لم يضع التاريخ في الخانة الموجودة بجوار توقيعه. ذهلت من «حنكلتها» وبينت لها ان الخانات الأخرى المبينة للتاريخ في الاستمارة مكتملة ومتماثلة، ولابد ان اغفال المشرف ذلك كان مجرد سهو، دخلت مكتبا جانبيا وعادت تقول ببرود إن هذا هو النظام. قلت لها هل تريدينني ان أكذب أو أزيف فأذهب الى المقهى المجاور وأضيف التاريخ وأعود بعد نصف ساعة أو ساعة فتستقبلين استمارتي، وبذلك تحوليني من طبيب الى مزور، بهتت وسكتت، وذهبت مرة أخرى الى المكتب الجانبي، وكنت مزهواً بقوة حجتي المفحمة، ولكنها عادت لتقول: النظام هو النظام. هنا لم يبق لي من الصبر شيء، فطلبت ان أرى رئيسها، ذهبت مرة ثالثة الى ذات المكتب وعادت لتقول ان رئيسها غير موجود. كدت أصرخ ولكني قلت وأنا أصر على أسناني: حسن! أريد أن أقابل الشخص في ذلك المكتب، لكنها لم تعر قولي انتباها وذهبت. باختصار «سفهتني»! قلبت بصري بين الموظفين الآخرين كطفل ضائع، ولكنهم أخذوا يتصرفون وكأني لست موجوداً. لم أشعر بالوقت الطويل عائدا الى المعهد. تكفل الغيظ والغضب وما يستتبعهما من أفكار وهواجس بأن أنسى طول المشوار. كنت حينها أمضي فترة تدريب في قسم العلاج النفسي. دخلت القسم بادي التوتر وفي الطرقة رأيت زميلي المتدرب الانجليزي، فبادرته قائلاً:«يونج )هذا اسمه( أرأيت ما فعل الأغبياء في مكتب التسجيل؟ لقد رفضت الموظفة الحمقاء استلام استمارتي لعدم وجود التاريخ!» قال: أنا آسف من أجلك! يبدو أنك متوتر للغاية، هل تريد التحدث عن الأمر؟». فوجئت بدعوته، فلم يدعني أحد طوال عمري للحديث عن موقف أزعجني. كل ما مر عليَّ هو من قبيل «بكره تكبر وتنسى» أو «طوِّل بالك» أو «هذولا انجليز فيهم مالا فيهم، وش تتوقع أكثر من كذا» أو «يا رجال وسع صدرك! وش يعني؟ ما نقص منك إيد ولا رجل». ولهذا لم تعجبني دعوته للحديث عن الموضوع، فماذا سيجدي الحديث وقد حدثت نفسي بالأمر طيلة ساعة؟ ولكني انسقت وراءه ك«المسبوه» ودلفت مكتبه، وحدثته عما حدث بالتفصيل، وبكل حنق. لم يقل أكثر من بضع كلمات متفرقة ولكنه كان يستمع اليَّ بكل جوانحه، وكأني أحدثه عن معركة «الطرف الأغر» أو «واترلو». وعندما فرغت أحسست براحة كبيرة. وبت مستعداً أن أنسى، وأن أطوّل بالي، وأوسع صدري، وفي اليوم التالي ذهبت بالاستمارة مكتملة الى ذات الموظفة دون ذرة من حنق، ولكن بسخرية خفية ممزوجة بالشفقة. لقد كانت خبرتي في قسم العلاج النفسي من أفضل الخبرات وأنجعها. في كل الاجتماعات عندما كنت أفتح فمي بأي «خربوطة» أجد انصاتا واهتماما. ان لم يكن في حديثي ما يشد كانوا يبحثون عما يحتويه من مشاعر ويهتمون بها. وفي الأسابيع الأولى من فترة التدريب التي دامت خمسة عشر شهراً حدث موقف صغير شكل منعطفاً في حياتي. ففي الأسبوع الأول حضرت الجلسة التعليمية الأولى مع الاستشاري «وولف» الذي كان فوق السبعين. كانت جلسة للتعارف «فقد كنا أربعة متدربين جدداً، ثلاثة بريطانيين وأنا» ولاستطلاع معلوماتنا عن العلاج النفسي، وخبراتنا فيه. في الأسبوع التالي حضرت دكتورة بدلاً عنه وأخبرتنا أنه مريض. وفي الأسبوع الذي يليه وصلنا خبر وفاته. بعدها كنت في الاجتماع الأسبوعي وعرفت ان مأتمه كان في اليوم السابق. وكان الحديث يدور حول الفقيد «وولف» فقد كان زميلاً لهم، وكان أستاذاً لبعضهم. لم يكن الحديث عن مآثره ولكنه كان تعبيراً عن مشاعرهم تجاهه. تهدج صوت البعض، وبكى بعضهم، وفجأة وجدت نفسي أقول:«لقد كنت سعيداً جداً بمقابلة الدكتور وولف، وقد فرحت بأنه سيكون أحد الذين أتعلم العلاج النفسي على أيديهم، والآن أشعر بالأسى لأن ذلك لن يحدث أبداً».. قلتها جملة عابرة وربما مجاملة، ولكني فوجئت بنظراتهم الحانية المصوبة بسلام تجاهي، وهمهماتهم أو كلمات قصيرة معبرة عن التعاطف، حينها اكتشفت فعلا أني لم أقل قولي مجاملة وإنما كنت أحس إحساساً غامضاً بفقده. لقد كنت سعيداً فعلا بكوني سأتعلم على يديه، أذ بدا لي شخصاً ذا لماحية خارقة، وخبرة عريضة، وفكر مفتوح، وحس انساني كبير. فعلا كنت أعاني من شيء ما، ولم يكن ما قلته اعتباطاً ما بدا لي أولا. افتحوا النوافذ لشمس الحياة. افتحوا الشبابيك لدفء المشاعر، ولصخبها «حتى للسلبي منها». لا تخشوا منها، فهي في صفكم دائما. افتحو شبابيك قلوبكم لتجعلوا عيدكم عيدين، وكل عام وأنتم بخير!. فاكس: 4782781 [email protected]