ولكيلا ينثني السهم عائداً بذات النفاذ إلى مصطلح يقبل التعايش، ولا يتنكر لجذوره ومرجعياته وضوابطه، أشير إلى أن «النقد الثقافي» بمعهوده الذهني، لا بتحديده الإقليمي الاعتباطي وغير المسبوق، لا يختلف عن «النقد الإسلامي»، إذ يشكلان انعطافاً «مضمونياً» ليس غير، إذ ليس لهما منهج أو آلة يفترقان فيهما عما هو عليه «النقد الأدبي» وتوهم الاستقلالية حدا بالبعض إلى الإنكار أو التحفظ. ومشروعية «النقد الإسلامي» أنه يشكل اتجاهاً من اتجاهات «النقد الأدبي» مفترضاً قيام الأصل، فيما يتعمد «النقد الثقافي» الإقصاء والأثرة. وافتراء الاتهام للنقد الأدبي وافتراض السلطان والإسراف في القتل ظلماً وعدواناً. والمتعقب للدراسة التطبيقية من خلال كتاب «النقد الثقافي» يجد أنها تحيل على واحد من أخطر مفهومات الثقافة، وهو: السمة والخصوصية والأداء والتصور للأشياء والموقف منها. وهو مفهوم تتنازعه الحضارة والثقافة والاجتماع ومن وراء ذلك الدين، وهذا الجمع الابتساري يفوت المقتضى الرئيس لأي مصطلح، وهو الجمع والمنع، ثم إنه يفضي في النهاية إلى محاذير من أخطرها أنه يقرر تحول القيم الثقافية من بعدها الانساني إلى بعد نفعي ذاتي، وتحول الخطاب الثقافي إلى خطاب كاذب ومنافق، وبخاصة حين يعمم ولا يستثني، ويشيع ولا يصلح، ويفضح ولا ينصح. وهذا التصور يكفي لإدانة «النقد الثقافي» إقليمياً، والنسق الثقافي العربي ليس هو الأسوأ في السياقات الثقافية العالمية، وليس تشكله وقفاً على السيئ من مصدر واحد. وسوف نرجئ التفصيل في هذا لوقته، ولكن ليس هناك ما يمنع من الإشارة إلى: دعوى التشعرن، وقصر الشعر على أقبح الأغراض، وقصر التأثير عليه، والقول بأن أخطر تحول حدث في الثقافة العربية هو ظهور شاعر المديح، وتسليع البلاغة، ووصف المتنبي بالشحاذ العظيم، وتعميم النسقية المدانة، والتحيز إلى المتماكرين بالشعر العربي، وكلها تهون إلى جانب اختصار النسق الثقافي في السيئ من الشعر، تمهيداً لمشروعية التصفية، دون إحلال للبديل أو تحديد لمشكل نسقي قائم إلى جانب أنساق أخرى، وذلك قول لم يقل به أحد من قبل، وإساءة لحضارة لم يجرؤ على اقترافها منتمٍ إليها. وليس مُسلَّماً القول وما بين الأقواس من كلام صاحب المشروع في كتاب المشروع بأن: «النسق الثقافي العربي كله وهو نسق كان الشعر وما زال هو الفاعل الأخطر في تكوينه أولاً وفي ديمومته ثانياً ص 93»، كما لا نسلم بأن:« عيوب الشخصية العربية ذاتها ص 93» من النسقية التي ينطوي عليها الشعر. ولا نسلم بأن الشعر هو أهم المقومات التأسيسية للشخصية العربية، وليس من الانصاف للإنسان العربي أن نقول في حقه: «إن النفس العربية قد جرى تدجينها لتكون نفساً انفعالية تستجيب لدواعي الوجدان أكثر من استجابتها لدواعي التفكير وصارت الذات العربية كائناً شعرياً تسكن للشعر ولا تتحرك إلا حسب المعنى الشعري الذي تطرب له غير عابئة بالحقيقة، وما كانت الحقيقة قط قيمة شعرية، وبالتالي فإنها لن تكون قيمة ثقافية طالما أن شعرية الخطاب هي اللب اللغوي والقيمي لثقافتنا ص 105». وما سقناه قول المبشر ب«النقد الثقافي» الإقليمي الذي استقبل باحتفالية فارغة من غوغاء فارغين. وإذ لا نزكي الثقافية العربية بوصفها السلوكي والتصوري أو بوصفها المعرفي، فإننا لا نرضى بالتعميم واستدبار المؤثرات الأهم، ولا بافتراء الاتهام، وإصدار الحكم من كاتب لم يبرح درك السمسرة. وخشية الابتسار نحيل إلى الكتاب، ونتمنى أن يتوفر المستحيل على إمكانيات التفكيك والاستكناه، ليكون تصوره دقيقاً، وموقفه عادلاً، فلا تأخذه العزة بالاثم، ولا يجرمنه الشنآن على ألا يعدل، كما نتمنى أن يكون على شيء من المتداول في المشاهد بحيث لا يقزمه الانبهار بما هو دون العادي، والموفق من تمني جريان الحق على لسان الأنصار والخصوم على حد سواء. وما نقوله من آراء، وما نَخْلصُ به من نتائج، يحال إلى وثائق نصية، قرنت ومحصت من لفيف من الأدباء والمفكرين والأكاديميين داخل البلاد وخارجها كما يدعي المؤلف في كلمة الشكر التقليدية لمقدمات الغربيين «ص5»، وما على المواطئين أو المتحفظين أو المترددين إلا أن يعيدوا قراءة الكتاب مستصحبين تساؤلاتنا، ثم ليرتقوا مع القول ونقيضه، ليستبينوا وجه الحق، ولا يسكتوا عنه خشية الوقوع في الشيطنة الخرساء. وأمام جناية الاختصاروالتعميم: اختصار التأثير بالسيئ من الشعر، وتعميم ذلك في ثقافة الأمة، نتساءل: أين تأثير الذكر الحكيم والسنة المطهرة؟ وأين فيوض الفلسفة العربية ورؤى أساطينها وصراعاتها بين «التهافت» و«تهافت التهافت» و«رسائل إخوان الصفاء» و«الرد على المنطقيين»؟ وأين انعكاسات «التصوف والمتصوفة» وشطحات الصوفية وشخصياتها: القلقة والمستكينة والمتدروشة؟ وأين بوادر «علم الكلام العقدي» وطوائف المتكلمين من سلفيين وأشاعرة ومعتزلة وجهمية ومعطلة ومؤولة ومفوضة وحشوية ومشبهة؟ وأين جدل أولئك وهؤلاء حول عالم الغيب والشهادة وتصوراتهم لخالق الكون في أسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته وفعله وقضائه وقدره؟ وأين «أصول المعارف والعلوم» و«قواعد الفقه» وضوابط المعرفة وعلوم الآلة: نحوياً وصرفياً ولغوياً وفنياً عند سائر العلماء والفلاسفة والمتكلمين؟ وأين أثر المفسرين وشراح الحديث، وما تركوه من معارف وأحكام وقيم وأفكار وتصورات وجرح وتعديل وتصحيح وتضعيف؟ وأين أقوال السلف في الرقائق والمواعظ؟ وأين رسائل الأدباء العلمية والفلسفية والإخوانية؟ وأين كتب الحكم والأمثال؟ وأين مستويات الخطاب العربي وأنواعه وتعدديته الطائفية والمذهبية والحزبية؟ وأين سير الرسل وأصحابهم والتابعين وأعلام النبلاء؟ وأين التاريخ الحضاري والتمدن الإسلامي؟ أين الموسوعات في مختلف العلوم؟ وأين أئمة المعارف والمذاهب وجهابذة الاجتهاد وعباقرة الاكتشاف والتأصيل؟ وأين أدب الأحزاب كالخوارج والهاشميين؟ وأين النزعات الدينية والفكرية والفلسفية والشعوبية في الشعر العربي؟ وأين بلغاء العرب وحكماؤهم وقادتهم الذين بهروا العالم؟ وأين العبقريات العربية في العلم والفلسفة والتاريخ وعلم الرجال والأنساب والهيئة والحيوان؟ وأين ما كتب عن حياة الأبطال والفاتحين والمجاهدين، كما صورها الأدباء والمفكرون؟ وأين جدلية الفكر السياسي، وما واكبه من فتن، وما خلفه من وجوه القول وعميق الرأي؟ أين حضارة أمة سطعت شمسها على العالم عبر ملايين المخطوطات المرتهنة في مكتبات العالم؟ إن التجاهل أو الجهل لكل ذلك وحصر الثقافة في الشعرية واختصار التشعرن بالشحاذة والمدح وصناعة الطاغية تمريغ لكرامة الأمة، وتشويه لصورة أبنائها وتجهيز مهين «للهليوديين» كي يقدموا الإنسان العربي في أبشع صورة متوحشة عرفها التاريخ، والقول بالتشعرن على إطلاقه فضلاً عن حصره بالسيئ من الشعر إدانة دنيئة للحضارة العربية، واسترضاء للحضارة المستكبرة، التي تخادعنا بالتحذير من تداول «الغزو والتآمر»، ولا ترضى إلا باختصارنا في سقط التراث ك«ألف ليلة وليلة» و«التشعرن» و«الابداع الجنسي الهمجي» وتحويل الروايات العربية إلى «سير ذاتية» تختصر الإنسان العربي في «الجنس» و«التوحش» و«البدائية» لإضحاك الآخر وتسليته، وجر أقلامنا لتدنيس المقدس وأنسنة الإله، وإقناعنا بقبول حصر الصراع الحضاري بما يتداول من روايات موغلة في الفحش والتهتك، لنظل في عتمة الترميز الفحولي. هذه الممارسات قتلت كرامتنا وعكست مفهوم أزلية الصراع، وأخلت مواقعنا في تنازع البقاء، وفات المتسللين من مشاهد الصراع إلى مغارات القمع أن القعود عن مواجهة الخصم وانتظار من يدبر الحياة يعني التنازل عن مهمتنا في الدعوة وإبلاغ الرسالة والخنوع. وكيف نتصور الحياة بدون صراع، وإذا قبلنا بالتعايش فلماذا سباق التسلح وقوة الردع، ومنع الطرف الآخر من الاستعداد بالمثل، لماذا تحدد الحرية، والحقوق، والإرهاب، والعولمة من طرف واحد، ولا يتجاوز دورنا القبول والترويج؟. لقد مارس الحداثيون قمع أنفسهم، وأعطوا الدنية وهم صاغرون، واتخذوا من المستشرقين أئمة ومعلمين وقدوة، ونسوا علماء أمتهم وتراث حضارتهم. المستشرقون يوحون إلى المبهورين بهم أنه لا صراع، وأنه بالإمكان تعدد طرق الخلاص، وهم إذ يمارسون معنا تقليم الأظافر وخلع الأنياب يشحذونها ويطيلونها عندهم. والمستشرقون العاملون لحساب المصالح العالمية يتخطفون نخب الأمة الواحد تلو الآخر، ويصنعونهم على أعينهم، ويكلون إليهم استكمال الخطط والمهمات، التي تبدو وكأنها قضايا علمية خالصة لا يشوبها مكر ولا مكيدة، وليس كل من أخطأ الطريق موصول الحبل معهم، ولكنه الإعجاب وخلو الوفاض يعتري البعض فيكون كأنه منهم. لقد طرح المستشرقون مصطلحات كثيرة ومراوغة لضرب حضارتنا، وطرنا بها فرحاً. قال «مرجليوث» بالانتحال استكمالاً لمشروع ضرب «الرواية» التي بدأت بالحديث النبوي. والطعن في القرآن والحديث «رواية» و«دراية» والنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم قضية استشراقية معروفة، ولربما يكون المفكر الوجودي «عبدالرحمن بدوي» آخر من سلط الضوء على فداحة الظلم للإسلام في كتابين استقصائيين هما: «دفاع عن القرآن» و«دفاع عن محمد»، والخليون من المستغربين يعيشون تحت خدر القول بالتعايش المتكافئ، ومن ثم يدهنون من طرف واحد، وقد بدت مهانة التهافت. لقد طار المستغربون بمصطلح «الانتحال» فأجراه «طه حسين» وعززه. وقال آخرون بعجز الحرف العربي عن ضبط الشكل ودقته فأجراه «عبدالعزيز فهمي» بالدعوة إلى الكتابة بالحرف اللاتيني، وقالوا بعجز اللغة عن أن تكون لغة علم فتهافت المتسطحون على تلك المقولة، وقال المستشرقون عن «الحريم» فتولى قاسم أمين توفير حرية الوصول إلى المرأة، وقال «فرويد» بالجنس فاختصر جرجي زيدان البطولة الإسلامية وحرب الفتوح في الجنس، وحصر التمدن الإسلامي في اللهو والمجون وقصور الخلفاء وقيل ب«الوضعية» فاتخذها «نجيب محمود « لتخريف «الميتافيزيقا» وقيل ب«الواقعية الفضائحية» واللا انتماء فكانت الطريق إلى «نوبل»، وقيل «بأدب الاعتراف» فكان العهر والتهتك، وقيل ب«المادية» فضربت الروحية، وقيل ب«الروحية» فضربت الانسانية الخليط، وقيل عن «الحرية» فَحَلَّت «الفوضوية» وقيل بالماركسية فاستدعي أبو ذر الغفاري ليكون اشتراكياً، وقيلت في كل مفردات الحضارة الإسلامية أقوال مريبة فتلقفها أبناؤنا بوعي وبدون وعي، واتخذوها تحت ذرائعيات تتكرر يوماً بعد يوم، يحيلون إلى حتمية التجديد والتغيير، وليس كل طارئ تجديداً، وليس كل تغيير مفيداً، إذ كل أمة لها مقوماتها وحاجاتها وثوابتها ومتغيراتها، والقول بأن صلاح الأمة بما صلح به أمر الغرب بإزاء القول صلاح الأمة بما صلح به ماضيها قول مريب، ولقد تفوه به البعض، مع أن ما صلح به أمر الغرب من أمر الدنيا هو ضالة الأمة ما دام حقاً، والعود إلى ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يعني رفض ما استقام فيه أمر الغرب من عدل وحرية وخضوع للقانون وأخذ بظاهر الحياة الدنيا. والذين يحيلون تخلف الأمة على تمسكها بدينها يكيدون ويمكرون، ولكنه مكر ضعيف وكيد مهين، فالإسلام مع العلم ومع الاكتشاف ومع السعي في مناكب الأض وآفاق الكون وإعداد القوة وإرهاب العدو، والمواطئون للغرب يمتعضون من القول «بالغزو والتآمر» ومن ثم اخترعوا مصطلح «العقلية التآمرية» لتكريس الغفلة، ولم تغن النكبات التي تعرضت لها أمتهم حساً ومعنى، ولم يوقظهم القمع والتهميش وتقاسمهم كالغنائم، منذ اتفاقية «سايكس بيكو» ووعد «بلفور» إلى عصر اللعب السياسة الموجعة، عصر الحروب الطائفية والحزبية والعرقية والحدودية، وفتح الملفات الساخنة أمام كل من تنفس من تحت الماء أو رفع رأسه بحثاً عن الهواء، ولم يتأمل أحد من المستغربين ما يمس أمتهم من تعديات على مختلف المستويات: حسياً ومعنوياً، والمواطئون أو المصدقون لمعسول القول يظاهرون الأعداء، ويأتون حضارتهم ينقصونها من أطرافها، والقول بالموت والتشعرن والعقلية التآمرية معاضدة للمكائد، وها نحن اليوم نواجه حملة مسعورة تقودها الصهيونية ونحن عنها غافلون فمناهجنا في نظرهم مصدر للإرهاب، والحدود الشرعية غمط لحقوق الانسان، ومقاومة الظلم إرهاب، وقوامة الرجل تسلط، ومنع الخلوة والاختلاط تعطيل لفاعلية نصف المجتمع، وإظهار الدين إرهاب ديني وإكراه عليه، والأمة المستضعفة تصب عليها أسواط العذاب، ونخبها تغازل الجلاد. وبتجاوز كل البوادر على الصعيد السياسي والعسكري والإعلامي وسائر جهات المواجهة مما توارد على الخاطر نتساءل: كيف تتشعرن الأمة والقرآن الكريم تصدى للشعراء، وذم طائفة منهم، وصفهم بالكذب والهيام بأودية الادعاء، ووصف الذين يتبعونهم بالغواة، ونفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم الشاعرية بحيث لم يعلمه ولا ينبغي له، كما ذم الذين يحبون أن يمدحوا بما لم يفعلوا. قال تعالى: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم» «188 آل عمران». والرسول صلى الله عليه وسلم ذم المداحين وقال: «احثوا في وجوه المداحين التراب» وجعل المدح قتلاً، وحذر من امتلاء الأجواف بالشعر، وفي ذلك تحذير من خلوه من القرآن، والفقهاء اشترطوا للمدح: الصدق، والتوسط، وأمن الغرور، وإتباع المدح بقول: أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً. وأبو بكر رضي الله عنه حين ضاق من المدح سأل الله بقوله: «اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون». لقد جعل المدح خطيئة بحق الطرفين. كما أن الإسلام ذم «التسول» وصوره بأبشع الصور، والرسول صلى الله عليه وسلم علَّم السائل طريق العزة والكرامة، وأقصاه من مجلسه للكسب، وحث على العمل، ولن نحول هذا المقال إلى خطبة وعظية، نتناول فيها أقوال المفسرين والمحدثين والفقهاء حول السؤال والمدح، والنصوص والأحكام مستفيضة ومعروفة لمن لهم أدنى اهتمام بالثقافة الإسلامية. فكيف نقطع بتشعرن الثقافة الإسلامية، ونبيح لأنفسنا ضرب أنساقها؟ الأمة العربية الإسلامية ضعيفة مستضعفة، وهي بحاجة إلى مصلحين ومجددين، ممن بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وواقع الأمة لا يحتمل الصبر، وهو أدعى للإصلاح والمراجعة والنقد، ولكن لا يجوز اختلاق أسباب الضعف، ولا التغرير بها لكي تتخلى عن تراثها ومصدر عزها وصلاحها، لا بد من التماس الأسباب الحقيقية من واقعها. فأزمة الأمة متعددة الأسباب والمصادر، وممتدة مع الزمن، إنها أزمة حكام ومثقفين وغزو وتآمر ومكائد، أزمة وعي منقوص، ومناهج لا تستجيب لمطالب الحياة وتهافت مهين على سقط الحضارات وموالاة للآخر. إن علينا ألا ننسى الأسباب الحقيقية، وعلينا ألا نلهي الأمة بالأوهام، لا نقبل القول «بالغزو والتآمر» أو نقبله في كل تواصل مع الغرب. نستدبر الحقائق ونقول بالتشعرن والفحولة، ولما يكونا سبب الضعف والتخلف والاستضعاف، ولو عدت مساوئ الشعراء الهجائين أو المداحين أو الشحاذين لما كانت إلا كما هي في الثقافات الأخرى، فلماذا نتعمد ضرب مفردات الحضارة الواحدة تلو الأخرى بحجج واهية وتصورات خاطئة، والشعر العربي المؤثر بقيمه النبيلة لما يزل هدفاً تعتوره سهام المناوئين، لقد اتهمه «أحمد أمين» وقال بأنه «أدب مَعِدَة»، مما حدا ب«زكي مبارك» إلى إصدار كتاب تحت عنوان «جنايات أحمد أمين على الأدب»، ومن قبل «أحمد أمين» «طه حسين» الذي عول على «مرجليوث» في قضية الانتحال. والقول بالتشعرن مكيدة بائرة غبية، وإن تعمدت إسقاط «الدلالة» بعد إسقاط «الرواية» على يد طه حسين، والذين دعوا إلى النثرية والتغامض والعامية من حداثيين وباطنيين يتحملون مسؤولية إجهاض الكلمة. ولا تخلو المشاهد ممن يوظفون إمكانياتهم لضرب شوامخ الشعر العربي، وسوف أتقصى هذه الجنايات على مدى التاريخ الأدبي الحديث، ليعرف القراء أن الأمر لم يكن صدفة ولا مبادرة، فالضرب المبكر في «الرواية» ثم استكمال المشروع لضرب «الدلالة» ومواصلة المكيدة إلى «العبارة» خطوات محكمة أو محاكاة بلهاء.