اسم الكتاب: منازل الخطوة الأولى في أحوال الطفولة والأمكنة والحنين. المؤلف: سيف الرحبي. ) ما سر انبثاق هذا الماضي، أهو البحث عن طفولة المكان أهو الشبق لملاقاة مكان الطفولة، أم هو الاقتراب من سؤال سابق: ما البداية.. ما النهاية؟ - بهذا المفتتح الجميل للشاعر الفلسطيني - محمود درويش يبتدأ الشاعر العماني الكبير «سيف الرحبي» كتابه الخالد «منازل الخطوة الأولى في أحوال الطفولة والأمكنة والحنين»، ولست أبالغ حين أصف كتابه هذا بأنه خالد وأضيف بأنه لو لم يكتب غيره لكفاه. هذا وقد قدم لنا سيف الرحبي من قبل مجموعة كبيرة من دواوين الشعر والكتب التي كثيراً ما افتقدتها مكتباتنا العربية، وذلك لما لأسلوبه من كثافة وتشويق تجعلان القارئ - دائماً - في ترقب وصفاء ذهنيين، ومن هذه الكتب والدواوين: «نورسة الجنون» - دمشق 1981م، «الجبل الأخضر» دمشق 1983م، «أجراس القطيعة» باريس 1984م، «رأس المسافر» المغرب 1986م، «ذاكرة الشتات» بيروت 1992م، «مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور» عمان - الإمارات 1988م، «رجل من الربع الخالي»، وغيرها، والكتاب الذي بين أيدينا يجمع بين جغرافيا الشعر ومكانية الحلم لدى الشاعر، فمن أراد أن يعرف مدينة الثقافة العربية «عمان» فلابد أن يقرأ هذا الكتاب الرائع ولقد قسم «سيف الرحبي» كتابه إلى فصلين تقع أحداثهما في مناخ زمني قبل عام السبعين من القرن العشرين، وهذا له مدلولاته المكانية والزمانية بالطبع ومدينة «عمان» - كما هو معلوم - مهبط الجمال والسحر والخيال، منها خرج علماء النحو والعروض، وفي أرجائها وشعابها نشأ «الخليل بن أحمد الفراهيدي» وعلماء اللغة والفقه والفلسفة، فليس جديداً أن تحتضن الثقافة وتصبح منارة للثقافة العربية. وشاعرنا «سيف الرحبي» يعد أحد أعلام الشعر البارزين، لا في عمان وحدها، بل في الوطن العربي كله، وتعد دواوينه علامة فارقة في الإبداع الشعري العربي الحديث لقد افتقدت المكتبات - الآن - الحديث عن جغرافيا الشعر، وعن المنشأ الأول والمهاد، فها هي «عمان» معروفة للجميع، ولكن الحديث عن وديانها وهضابها وشعابها ونخيلها وإبلها لم يكترث له الكثيرون، ولم يكرس المحدثون - تحديداً - جهدهم للحديث عن جغرافية المكان وتاريخية الحدث، فكان هذا الكتاب بمثابة العود إلى معين تراث مدينة خالدة، تضم بين أوار جبالها فكراً وثقافة وفلسفة وحضارة، فكان الأجدر أن نجلو الصدأ عن ذهب التراث لنعيد إنتاج الواقع، ونقف على كنوز معرفية غاية في العلو وذلك حتى يمكن أن نجابه المد الحداثي الحادث في العالم بتطوراته التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة، وبنظرياته التي تحاول أن تجرف معها كل ماضينا التليد الخالد. كما تكمن القيمة الأخرى لمادة الكتاب في تلك التضمينات الشعرية التي تخللت صفحاته لتصبح شواهد على عصور سالفة، وثوابت لاستشراف حضارة حداثية تجمع بين الأصالة والمعاصرة وتستشرف مستقبلاً لوطننا العربي الكبير. وأحسب أن «سيف الرحبي» لم يغفل في المرجعية الذهنية عند إعداده لهذا الكتاب تلك الإشارات السابقة، وإلا لما ضمّن لنا تلك الإشارات والرموز التراثية التي تؤطر لمسيرة حضارية وإنسانية وثقافية لمدينة ذات أصول ضاربة في الأصالة وتشحذ همتها بتلاحق لتُحدّث من هيئتها وفكرها حتى يمكن لها أن تساير الحضارة العالمية، والفكر العالمي المعاصر، وبالتالي لا يمكن أن نغفل دور المثقف الكبير صاحب السمو السلطان - قابوس بن سعيد صاحب الفكر الثاقب في التنمية والتحديث، والذي لولاه لما أصبحت عمان مدينة للثقافة العربية، فبفضل جهوده كان تحرر الفكر من ربق القيود، فنضجت الثقافة، وأينعت شجرة الفكر لتعم العواصم والبلدان العربية. ولقد يقول قائل بأنني جنحت بعيداً عن مضمون الدراسة، ولكنني أجزم بأن حديثي هذا ينصب على لب المضمون ولحمته، وإلا لما قلت قراءة تحليلية أولاً. ففي الفصل الأول: يحدثنا «سيف الرحبي» بأسلوبه النثري الأشبه بقطع الموسيقا، فلا أقول عنه نثراً خالصاً أو شعراً منغماً، بل هو يجمع بين روعة السرد النثري، وبلاغة الخطاب الشعري فجاء كتابه فارقاً، أسلوبياً، وجامعاً لمعان، ومسهباً لمضامين، ومحدثاً لدهشة تجعلك لا تترك الكتاب إلا بعد أن تجهز على آخره، ثم تكتشف في النهاية أنك ولابد عائد إليه عن قريب «فمنازل الخطوة الأولى» تعد قاموساً عمانياً خالصاً لجغرافيا الأمكنة التى ترعرع بين ترهاتها شاعرنا، فهو كتاب يجمع بين الجغرافيا، والتاريخ الحضاري للثقافة التي نهل منها، فاكتست شجرته الشعرية بمضامين تراثية وحكايات وعادات وأوابد ضاربة في أصالة «عمان» التاريخية يقول: علينا أن نقتحم الأمكنة والمفازات كي نفوز بلمسة إشراقة كأشباح موج متطاير في الظلمة أو كعصفور يسكن القلب منذ الأزل لكنه دائم الطيران فهو دائم البحث، دؤوب، لا يمل، يقطع المسافات والمفازات والفيافي، يبحث عن المعرفة، ويتحرق جوى بسحر الجمال، فها هو عند الشاطئ يسبح بأحلامه وآماله، يستقبل السفن الآتية من «الحج»، أو «زنجبار» أو «الهند»، ولا يلبث أن يغوص مع هدير أمواج البحر ليخرج لنا أصداف رحلته، ورحلة العمانيين بحثاً عن الهوية، وأملاً في مستقبل يغير الخارطة القديمة، ويضيف إلى عتاقتها حداثة غير مصطنعة، تتلاحم مع الماضي في عبق أسيل وأثير.. فها هو «سعد» يسافر مترحلاً بحثاً عن أرض الأجداد، ليعيد إليها النضار والخضار، بعد الاصفرار والشحوب وصروف الدهر والنوائب، ويرافق سعد «سالمين» ذلك الخبير بدروب الصحراء ومسالكها والعارف لأهوالها، يسير بين أشجار الأثل، وأحلام البدو وحكاياتهم، ليصعد بالرحلة إلى جبل «لسان الطير»، «ومهبط العقبان»، ثم يسير بين القرى المتراصة الشامخة كنخيل عمان السامقة، إنها القداسة العائلية للبدو الذين يسكنون الجبال، ويحتطبون في الصباح، ليسهروا عند الليل حيث الربابة والأرغول وحكايات الليل، فها هو الوالد يقود القافلة ليريه أرض الأجداد، وكأنه يرضعه التراث حتى لا تجرفه تيارات وعواصف المدنية والحداثة، ومع ذلك كان سعد مغرماً بالنظر إلى عروق النخيل، والنظر إلى الحطابين والبيادير وأسراب القطا والشباك، يسير والعاصفة في الصباح، وينظر بترقب للبروق التي تضيء فضاء القرية، حيث خيول السماء النارية الصاهلة، وحيث الهدير الكاسر للمياه عبر احتدام الظلام، والذي يشبه وحوشاً خرافية تجأر بالقيامة، ومع ذلك كان سعد مولعاً بأريج العشب، دائم الهيام بأشجار «الكولانه» و»الرسل»، يدقق النظر في ضجيج الجراد الذي يجيء على الزروع فيهلكها، وكأن الزرع يجأر من ظلم أحاط به، وكلها صور تراثية جميلة تذكرنا بقول الشاعر القديم: وقف الجراد على زرعي فقلت له لا تأكلنّ ولا تشغل بإفسادِ فقام منهم خطيب فوق سنبله إنّا على سفر لابد من زاد ومع كل ذلك كان سعد يهرب إلى حيث مساكن «الغجر» الذين احتلوا هضبة الوادي، وأقاموا السباقات للحمير، وعاشوا يستمتعون بقصص شيخ الغجر «مراش» الذي يجيد فن الحديث عن النساء ومغامرات الرجال معهن إنها القرية بنقائها وهدوئها وشتائها ومتصوفيها، فعاش سعد وشهد كل أحداث القرية بأساطيرها وخرافاتها. أما «البندر» فقد ساق أقدامه إلى مخيلة سعد، فشدت الرحال إليه، وكأن أفكاراً وتاريخاً جديداً يسوقه القدر لسعد ليصبح بعد أن يكبر شاهداً على الأصالة والمعاصرة بل ومنظّراً لكل ما كان وفي البندر عاش سعد، وشهد قصص البطولات وأسفار الملاحم، وقرأ كتب الدين والحكمة والفلسفة والتاريخ واللغة والشعر، وكان والد سعد رجلاً مستنيراً، يعتز ببداوته، لذا عندما حضر للبندر، أمر سعداً بأن يقرأ كتاب «تحفة الأعيان في سيرة عمان» للشيخ نور الدين السالمي، وغيره من الكتب. وحين يجنّ المساء يقرأ قصص الخيال «الفتاة المسحورة»، و»فتاة نزوي». وجدير بنا أن نذكر أن «نزوي» من أجمل بقاع عمان، أما عن فتاة نزوى فهي كما تذكر الروايات بأن القصة وقعت أحداثها إبان حكم الإمام سيف بن سلطان قيد الأرض، وهي قصة صيغت عبر الوزن والقافية، لفتاة أكلها السحرة وغابت عن الوجود باعتبارها ميتة، لكنها تعود إلى الحياة في جو مشبع ببخور الخرافة وكآبتها الشفيفة، مما يجعل مستمعيها من النساء يذرفن الدمع، بينما يتماسك الرجال فمن العيب أن يبكوا حتى لو صفعتهم نوبة أحداث تستلزم البكاء، وعليهم أن يدفعوا دموعهم إلى داخل مآقيهم كي لا يراهم الآخرون من أهل القرية أو الأغراب، ويمضي بنا سيف الرحبي في كتابه البديع والذي - كما أرى - يعد مرجعاً تاريخياً لا يمكن إغفاله في مسيرة التاريخ العماني، أقول: يمضي بنا المؤلف في هذا الفصل الشيق ليحدثنا عن تفاصيل عمان فكأنك تعيش في قراها وحاراتها وجبالها وهضابها، بل كأنك تستنشق عبق ماضيها الجميل، ومع ذلك في البندر نشاهد «الفكر الاشتراكي» و»الديمقراطي» المستنيرين، فيحدثنا عن «عبد الناصر» و»بريطانيا» و»أمريكا»، فكأنه يجمع بين التاريخ والسياسة والجغرافيا والأنثروبولوجيا والاثنوجرافيا، بل ويتجاوز، بطبوغرافية المكان، ويأخذنا إلى المدارس المذهبية والفقهية والأدبية السائدة آنذاك. ومع ذلك لم يغفل الكتاب بالطبع الحديث عن «الصراع العربي الإسرائيلي»، القديم - الحديث، وعن توازنات القوى الاستعمارية «أمريكا» و»الاتحاد السوفيتي» وعن «الحلم العربي» في توحيد «الجبهة العربية» لتصبح قوة ردع في الشرق الأوسط. أما الفصل الثاني: فيحدثنا عن حياة سعد وأسرته في البندر - بشكل نهائي - حيث أعمدة الكهرباء وصوت ضجيج السيارات وبيت الدكتور - «طومسون» الأمريكي، طبيب البندر، والطواحين العملاقة، وأشجار جوز الهند ومدارس التبشير «البادرية» والمستشفيات، ونواح الأبقار الهندية التي جلبت خصيصاً للعبادة، وعبر الأسواق والبحر ترعرع سعد وأكمل تعليمه المدرسي فتفتحت عيناه على مشاهد أكثر إثارة حيث الشركات الأجنبية «P.D.O» وحيث النساء الإنجليزيات ذوات الأفخاذ المكشوفة، إلا أنه مع ذلك أصر على إكمال تعليمه فدخل «المدرسة السلطانية»، ثم انتقلت الأسرة إلى مدينة «مسقط» وهناك واصل سعد دراسته في العلوم الفقهية واللغوية فعرف «سيبويه» و»المبرد» وسمع عن «الشيوعيين»، و»الإسلاميين» - ممثلين في الإخوان المسلمين - بقيادة سيد قطب وغيرهم. وبدأت تتفتق قريحته شيئاً فشيئاً، إلا أن سؤالاً بات يؤرق عقل سعد ويلح عليه: ترى هل تتغير الأحلام بتغير البيئة؟. وقصة سعد كما نرى تؤطر «لأدب الذات» أو قل: «طبوغرافيا عمان في القديم»، أو قل: «التاريخ العماني» بشكل أكثر شمولية. كما يمكن أن نصف هذا الكتاب بأنه يندرج تحت «أدب الرحلات» حيث يقص لنا تواريخ وأسماء وقصصًا وأمثالا وحكايات، ثم يتجاوز هذه الرحلة المحلية إلى خارج الحدود الإقليمية، فنراه يحلق بنا عبر أجواء دبي، وبيروت، ولبنان، والقاهرة، وفي إطار حديث «سيف الرحبي» - أو «سعد» - عن القاهرة نراه يصفها بأنها «نجمة البدو الرحل» حيث قضى بها أكثر من ثماني سنوات، لذا فإن حديثه عنها جاء مختلفاً، فقد صاغ ذكريات الأعوام الثمانية بالشعر، أو بقصائده النثرية الرائعة، فنراه يتنقل بنا في أماكن القاهرة في: «الدقي» و»مقهى ريش» يقول: نحن الذين وجدنا فيكِ صغاراً وكبرنا بعيداً عن رعاية الأبدية نحن الذين تسلقنا حواريكِ باحثين بين مقابرك الألف عن فجر هرب من بين أصابعنا خلسة واختفى ويقول أيضاً: وما بين (الدقي) ومقهى (ريش) يرتجف قلب العاشق المأخوذ على مدار الصدمة إنها صدمة الدهشة، ولا أقول الغربة، فهو لم يحس - يوماً - بغربة فها هو بين منازل الأصدقاء إلى جانب الشعراء: «أمل دنقل»، و»حلمي سالم» وغيرهم فنراه يسرد لنا حكاياته ومواقفه عن ليالي الشعر في «هوليود الشرق» - مصر المحروسة. ويتميز أسلوب «سيف الرحبي» بالعذوبة والتكثيف، وجمال السرد، فنراه يقبض على جمر اللغة ليعيد ترتيب الأساليب البلاغية، فكأنك أمام عقد منظوم، اختيرت حباته بعناية فائقة، ولقد أضفى الشعر على النثر بريقاً أخاّذاً، فغدا الكتاب جوهرة ثمينة، لا في كونه يؤطر «لأدب الذات» وحديث الذكريات والشجون فحسب، ولا لكونه يحوي تاريخاً لطبوغرافية المكان وقداسته فحسب، ولا لأنه يحوي درر النثر وقلائد الشعر فحسب، بل هو مع كل ذلك كتاب يجمع بين دفتيه أصالة الماضي، وعبق الحاضر، ويؤطر لاستشراف طريق جديد في مسيرة الإبداع العربي، وأحسب أن «سيف الرحبي» قد أرهق جمان ولب قشرة العقل، ودخل بجماليات سرده إلى أغوار الروح، فاستلب المخبأ من ذواتنا، وصهرنا معه في بوتقة لازوردية، ومسجّاة ومنمقة بأوار البهاء، فغدا كتابه نجمة تأتلق، وحيدة، وباحثة عن المعين الأول لجمال الحياة والكون. سلمان الأفنس ملفي