إذا كانت آفة الحديث رواته فإن علته في سوء فهمه، فسوء فهم الحديث مركب على قناعات سابقة ومعتقدات راسخة، وعندما يقابل أحدهم نصاً لا يفهم مضمونه فإنه يقوم بتأويله بما ينسجم مع مخزونه الفكري من المعتقدات والقناعات. عندما طرحت موضوع الحاجة لتحديد سن الرشد بما ينسجم مع القوانين والأعراف الدولية واجهت مناقشات واعتراضات، منها ما كان حوارياً انتفعت به، ومنها ماكان صدامياً موغلاً في العدائية، ومن تلك كان جدال مع أحدهم الذي اعتبر مطلبي طعنا في الشريعة واستجلابا لثقافة الغرب وفي مدار جدالنا ذكر أن الفقهاء اتفقوا على أن البلوغ هو حجة الرشد، وعندما اعترضت على أن البلوغ ليس شرطاً للرشد وذلك بنص قرآني، قال لى أنت مخالف لإجماع الفقهاء وينطبق عليك حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قوله «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار» وأنت بقولك شاذ عن الجماعة. قلت له يا صاحبي أنت تفهم هذا النص على غير وجهته، فقوله «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة» هو استدراك على من يعتقد أن الأمة يمكن أن تجتمع علي باطل، وللحديث سياق نزعته أنت من سياقه لتبرير قولك، وحجة الحديث، أنه عند الاجتماع لا يجوز الشذوذ بنحو يضر ذلك الإجماع، وما عدا ذلك فالخلاف في الفهم والقول سنة البشر ولا يكون الاتفاق إلا بعد اختلاف، وإلا كيف يقوم حق على باطل. هذه القصة هي مقدمة لمقالي الذي أطرح فيه علة تجانس الفهم للنصوص العربية. اتفق علماء الاتصال اللغوي، أن اللغة هي رموز لمعان معلقة بمفاهيم فإن تطابقت المفاهيم لدى طرفي الحديث سهل الاتصال اللغوي، وإن اختلفت أصبح الاتصال مرهونا بفهم المستقِبل لا مراد المرسِل، لذا يكثر الجدال بين ذوي المفاهيم المختلفة في صورة نزاع فكري غالباً لا يتجه لحسم باتفاق، بل إن كل المتحاورين يرى في جدال الآخر مراوغة في قبول الهزيمة، وبالتالي كل منهما ينتهي بادعاء الفوز على الآخر، لذا يولي اولئك العلماء عملية ربط المعاني بمفاهيم محددة اهتماما وجهدا ينصب في معظمه على دراسة تكوين المفهوم، فتكوين المفهوم يخضع لعدة عوامل مؤثرة، منها الحالة الذهنية والنفسية عند تكوين المفهوم، ومدى التأثير الذي يمثله تكوين المفهوم في المصالح والمخاطر المحيطة بالفرد، والمعتقدات والقناعات الاجتماعية المحيطة، هذا إلى جانب التراث الأدبي والفكري السائد، وكل ماكانت المؤثرات متجانسة في التأثير على أفراد المجتمع كل ما تجانست المفاهيم وتحددت المعاني وسهل الاتصال ولو بعبارات قصيرة نسبياً، وهذا ما يفسر بلاغة اللغة العربية عندما كانت المفاهيم متجانسة في العصور القديمة، وعندما تداخل العرب مع المجتمعات الأخرى خلال الفتوحات الإسلامية، وباتت الثقافة الإسلامية الدينية هي المحدد للمفاهيم التي تشكلت بفعل تلاقح تلك الثقافات، قل التجانس في المفاهيم تبعاً لذلك، واتسعت دائرة الخلاف حول مفاهيم النصوص، هذا الإشكال زاد في الحدة مع تأثير الحركة الفكرية الغربية في واقع الفكر العربي، وأفرز صعوبات كثيرة تمثلت في غياب أطر تحكم الخلاف وتؤسس لقواعد إعادة تجانس المفاهيم. كثير من المجتمعات التى حققت قفزات تنموية والتي لم تكن لغاتها في الثراء الأدبي أو التراثي كماهي اللغة العربية حققت تلك التنمية بفضل تجانس المفاهيم، فتوفرت لديها طاقات فكرية موجهة باتجاهات متوازية مع قدرتها الفنية والمادية، في حين لازال العرب يبذلون جهداً كبيراً في جدال مفتر للهم وموقد للخلاف حول قضايا باتت محسومة لدى معظم شعوب الأرض، وجل ذلك الخلاف بعيد عن جوهر العقيدة، ومع ذلك وفي كل جدال يجر هذا الخلاف لمحور العقيدة وترفع العناقر بالتشكيك في العقيدة والوطنية والولاء وتساق عبارات التخوين والتكفير بسخاء على هذا وذاك. منذ مطلع الخمسينيات نما الاهتمام بدراسات اللغات من حيث تكوينها المنطقي والرياضي ودراسة تاريخ تكونها، وقد ازدهر هذا الاهتمام بعد ذلك، عندما تطور استخدام لغات الحاسب الآلي، والتي هي لغة تخاطب بين مكونات حاسوبية لها معان محددة مقرونة بمفهوم واحد، فاهتم اللغويون بلغة الحاسب، حيث تمثل فرصة لحل علة المفهوم، واهتم الحاسوبيون باللغات الإنسانية لكون فهم تركيبها يقود لمماثلة العقل حاسوبياً، وبتلاقح هذا الاهتمام المتبادل بتنا في العصر الحالي أمام ما يسمى بحوسبة اللغة، وهو ما يمثل أمل للغة العربية لكي تنعتق من معضلة المفهوم المتعدد أو المفهوم المائع في معان كثيرة. فتحول كثير من أرباب العلم والصناعة للغة غير العربية في أعمالهم ما هو إلا لوجود وحدة في المفاهيم تميز تلك اللغات، لذا فالأمل معقود على خطوات تقوم بها الجامعات السعودية من أجل بناء مراكز حوسبة للغة العربية تتحول بها من لغة بيانية إلى لغة علمية تطبيقية.