هذا الخُلِّيف يكون داخل مكة يوم الوقفة يعرفه, إذ بهذه الصفة يسم أهل مكة حال أحيائها بعد مغادرة الحجيج... ولا يتكرر في أي مدينة من مدن العالم.. ذلك لأن مكة يخلفها خالية من سكانها، وزوارها جميع الحجيج لعرفات... ففي اليوم الذي تكتظ فيه أرضها عرفات بالبشر من الوافدين, وممن قصدوا ربهم من أهلها, لأداء فريضتهم، أو التزوّد من القرب لربهم... تفرغ أحياء مكة الداخلية إلا من القليل, القليل من القاطنين.. هناك في المشاعر يكون أهل مكة بجوار قاصديها.. إما في خدمتهم، أو في تعبدهم.. يفرحون بضيوف ربهم، كما ينتعشون بموسم الخير يعمهم.. إذ كانوا إما مستقبلينهم في بيوتهم، وإما متاجرين بما يعود عليهم من المردود، يحفظونه لمؤونة السنة كلها، حتى إذا ما عاد موسم الحج الذي يلي، شمر أهل مكة لاستقبال ضيوف الرحمن، إذ معهم يأتي الخير بأنواعه، وألوانه، وحصيلته التي هي في الخلاصة تفان في إرضاء الله تعالى في قاصديه، يسقونهم, ويطعمونهم، ويأوونهم... مكة، هي الأرض التي دعا لها نبي الله إبراهيم عليه السلام, فجاءها من كل فج عميق خلق الله.., ورزقها الكريم المنان من كل الطيّبات... في يوم عرفة تتحول مكة الخافقة النابضة بالحجيج، وأهلها، وبحركة الطوافة، والسعي، والسقاية، والبيع, والشراء إلى هدوء مطبق، وخلو مدهش.. يومها يؤم الحرم أهل مكة المتخلفين عن الحج.. سيراً على الأقدام، يهزجون ويطبلون بالدعاء وأناشيد البهجة.. وتعم الأفراح يوم العيد أسرها, فتخرج النساء، والأطفال، وترتدي النساء ملابس تتخفى فيها بشخصيات رمزية، يدرن في شوارعها هازجات, فرحات، يتعارفن أكثر، ويتشاركن الأفراح مع الجارات في الحي، وفي الأحياء الأخرى، وما إن يأتي الغروب، تعود الجماعات بأفراحها من النساء، والأطفال لبيوتهن.. يغلقن الأبواب خشية سارق مارق، أو غريب طارئ... مكة حلوة في زحمتها، وفراغها، في حيويتها وهدوئها، في عمارها و»خلِّيفها»... ترى، هل لا يزال طعم يوم عرفة في مكة ينبض في وجدان أهلها حتى الآن..؟ بعد أن تغيّر وجهها كثيراً كثيراً..؟