لقد استمر الاهتمام بأدب الرحلات عبر مختلف العصور والحقب التاريخية بسبب طابعها الأدبي وتعتبر الرحلات من أوسع أبواب المعرفة، وتعد هذه الرحلة (ياباني في مكة) أو الحج إلى مكةالمكرمة نموذجاً للنمط الأدبي المعروف (بأدب الرحلات) وهو رافد من روافد الثقافة والمعرفة من الأدب والتاريخ، يستفيد منه كتاب السير، وعلماء الجغرافيا، وعلماء الاجتماع، التربية، وعلماء اللغة وغيرهم إفادة كبيرة وقد كسب الحج في أدب الرحلات مجموعة من الكتب الجيدة لبعض مشاهير الكتاب والعلماء. وهذه الرحلة تضم بين ثناياها جميع أقسام الرحلات، المعروفة لدى الباحثين في أدب الرحلة، فهي قبل كل شيء رحلة دينية، ورحلة أدبية، وفن من فنون القول الأدبي. اعتمد فيها المؤلف، بالإضافة إلى المشاهدات العينية، على ما سمعه من أخبار، وعلى مطالعة الرحلات السابقة التي كتبها غيره. ولقد بدأ المؤلف رحلته بمقدمة عن الإسلام ومبادئه، ثم بمقدمة أخرى عن الرحلة ذاتها، والظروف التي دفعته إلى القيام بها، وركز على الأمور الجغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية، ووصف الطرق والعمران والمرافق والظواهر المناخية، ووجه عناية خاصة للأمور الاجتماعية فتحدث عن البشر، وفئات المجتمع وطبقاته، ووضع الرجال والنساء في المجتمع، وغير ذلك، ولم تخل رحلته من ذكر رجال الدولة والعلماء وعلى رأسهم مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه- وقد أفرد فصلاً كاملاً عنه. وتأتي هذه الأمور كلها داخل الإطار الأساسي وهو الحج ومناسك الحج. وقد كان أول من قدم للحج من اليابانيين هو عمر ميتسو ياماوكا من مدينة هيروشيما الذي وصل إلى مكةالمكرمة في ديسمبر 1909م، ومنها سافر إلى المدينةالمنورة ثم سطر ذكرياته في كتاب بعنوان: (رحلة عبر الجزيرة العربية) طبعت عام 1912م ثم جاء من بعده الأستاذ تناكا المسمى بالحاج نور تناكا فسافر للحج في عام 1924م وسجل وقائع رحلته في كتاب بعنوان: (الحج في الإسلام) في حوالي 320 صفحة والرحلة تعبر عن وجهة نظره الإسلامية وتوضح كيف صار مسلماً. وقد أشار في رحلته إلى سبب تسمية الرحلة السحاب الأبيض الطافي على صفحة الأفق، فقال: إنه رأى في منامه أنه يقف على أعلى قمة مرتفعات (باميل) (جبال هندوكوش) في وسط آسيا، ولم يستطع أن يحقق هذا الحلم، ثم كان تفسير حلمه، قدومه إلى عرفات، وشاهد الحجيج في ملابس إحرامهم البيضاء، وكأنهم سحاب أبيض يطفو على صفحة الأفق. وقد عمل الحاج كاتب هذه الرحلة نور تناكا محاضراً في معهد الثقافات الشرقية Daito Bunka Gakkuin، وكان يأمل في تقوية العلاقات بين اليابان والعرب من ناحية، وبين العرب وآسيا من ناحية أخرى، وتشكيل وحدة واحدة من هذه الدول تحت مظلة الفكر الإسلامي، وكان زعيماً يعمل على تحقيق هذه الفكرة، كما كان زعيماً لمسلمي اليابان آنذاك، وقد رأى أن تحقيق هذه الفكرة، يبدأ بتقوية العلاقات بين اليابان وجزيرة العرب، التي وحد أجزاءها الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه- ومن هنا وضع الرجل أمله في الملك عبد العزيز، ونصح الحاج نور تناكا مسلمي اليابان بضرورة بذل الجهود لدعم العلاقات بين اليابان والمملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي. ومؤلف هذه الرحلة (ياباني في مكة) أديب مسلم صاغ عباراته بأسلوب أدبي سهل واستعان بالصورة الأدبية لتسهم في نقل المشاهد والمواقف ورصد الحوادث بما يتخللها من إثارة وحوار. ولما كان المؤلف يابانياً مسلماً، فلا عجب أن يدمج في سياق تعبيراته، آيات من الذكر الحكيم، أو تعبيرات جرت على ألسنة المسلمين، إذا ما استلزم الحال ذلك وكم من مرة غلبت عليه المشاعر الفياضة، ففاضت على أسلوبه، فجاءت لغته رقيقة المستوى، عظيمة التأثير والإمتاع، والحقيقة أن الكاتب جعل لرحلته قيمة أدبية، بما عرضه فيها من أساليب، ترتفع بها إلى عالم الأدب، وترقى بها إلى مستوى الخيال الفني. الملك عبد العزيز في الرحلة رسم المؤلف في كتابه هذا صورة للملك عبد العزيز الذي شاهده عن قرب والتقى به، وقد خصه الملك دون غيره من الحجاج باللقاء أطول وقت ممكن، بل أوقفه بجانبه، طوال مدة مصافحته لوفود العالم الإسلامي التي قدمت للسلام على جلالته في الحج، فرسم المؤلف للملك عبد العزيز صورة دقيقة الملامح، جميلة القسمات، خطها بأصدق الكلمات، وأوضح العبارات، دون رياء أو مجاملات. فرحالتنا مسلم قطع آلاف الأميال، ووصل من أقصى الأرض، يسعى لأداء فريضة الحج، حاملاً بداخله عاطفة إسلامية جياشة، يفكر في أحوال إخوانه المسلمين مهما اختلفت جنسياتهم، ويراقب تصرفات أعداء الدين، مهما تنوعت أساليبهم، فرأى أمامه ملكاً قوي البنيان، في قلبه حنان الأب، وفي عينيه بريق الأمل، وعلى وجهه ارتسمت صورة كفاح السنين، ذلك الكفاح الذي شكل شخصية الملك عبد العزيز ليصير قائداً للعرب وللمسلمين. تأثر الحاج محمد صالح (سوزوكي تاكيشي) بعد أن شاهد الملك عبد العزيز فوصفه في كتابه بأنه رجل لا يقهر، وبأن النصر يواكبه حيث مضى، وأن النصر حليفه على جميع أعدائه، وغلبت المشاعر على الكاتب، وهو يصافح الملك عبد العزيز، فانهمرت الدموع من عينيه، رغماً عنه، وتأثر الملك الإنسان وشعر بما يموج بداخل هذا المسلم الياباني من عواطف صادقة، فأمسك بيده، وأوقفه بجانبه، وهو يصافح بقية وفود العالم الإسلامي.. وكأن الملك عبد العزيز أراد بهذا أن يزيد هذا الياباني المسلم شرفاً على شرف، وأدرك الياباني المسلم بفراسته ما قصد إليه الملك العظيم فسطر ذلك على صفحات رحلته. كتب عن حياة الملك عبد العزيز الأولى، وعن كفاحه حتى استرد ملك آبائه، وتمكن من توحيد أجزاء البلاد، وتأسيس المملكة العربية السعودية الحديثة، وتحدث عن الحج وأفاض في ذلك وعن المؤتمر الديني وعن المنتخبات اليابانية، وما سمعه من وفود البلدان الإسلامية نحو تطوير التجارة مع بلاده اليابان. إن هذه الرحلة تعطي فكرة عن شخصية الياباني المسلم وعن عاطفته الدينية ومحبته للأماكن المقدسة وتقديره للملك عبد العزيز وقد تجلت قدرة المؤلف على توظيف ثقافته وأسلوبه في صياغة المواقف والمشاهد صياغة لا تبتعد عن الواقع بقدر ما تمنحه الصدق وقيمة الأسلوب الأدبي الجمالية وهي جديرة بالاهتمام لأدبيتها من ناحية ووثائقيتها من ناحية أخرى. وتصويرها لرحلته إلى الحج حيث كانت تهفو نفسه وتتطلع لأداء هذه الفريضة متجشماً وراضياً كل مشقة في سبيل أداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة حيث تحدث عن ذلك في مشهد مؤثر وبذلك كانت رحلته مفعمة بالمواقف وبعينه الراصدة لكل ما شاهده ورآه يحكي أحوال المسلمين متحدثا عن الحج ومناسكه وهو في كل ذلك يبدع في الوصف والتصوير على نحو ما رأينا وقرأناه في رحتله حيث أثار الحج مشاعره فصور الحج ومشاهده وأماكنه والمشاعر المقدسة وهذا أكسب أدب الحج مجموعة من الكتب الجيدة لمشاهير الكتاب والأدباء والرحالة. هذا وبالله التوفيق. وقد قام بترجمتها أ.د. سمير عبدالحميد إبراهيم، وسارة تاكاهاشي سنة 1419ه