الثروة الحقيقية هي وسائل الإنتاج وليس المال المتكوم في الخزائن. من يملك وسائل الإنتاج يسهل عليه جمع الثروة واستثمارها في وسائل إنتاج أكثر تطوراً لتحصيل المزيد من الثروات. لكن من يملك الثروة فقط، وتنقصه وسائل الإنتاج يستطيع أن يشتري حاجياته ومستهلكاته من السوق بما عنده من فلوس حتى ينتهي مخزونه من الثروة، وبعد ذلك سوف يعود مضطراً إلى التنبيش في بقايا حاجياته القديمة لعله يجد فيها شيئاً يستطيع الاستفادة منه. يحكى في نوادر جحا أنه خرج إلى الصحراء ليحتطب وقد تزود ببطيخة كبيرة، فكان يقضم من كل قطعة من البطيخة جزءها الأحمر السكري ويرمي بالقشر وما بقي عليه من اللب بعيداً، لأنه اعتقد أن بطيخته كبيرة جداً وسوف تكفيه إلى آخر النهار بالتأكيد. عندما صارت الشمس عمودية على رأس جحا وفاح رأسه من الحرارة بدأ يستهلك قطعاً أكثر من بطيخته الكبيرة، ولكن بنفس الطريقة التبذيرية السابقة. قبل أن يكون قد احتطب ما فيه الكفاية كانت البطيخة قد تلاشت، ولم يبق منها سوى القطع المستهلكة والمتناثرة هنا وهناك وقد كساها التراب وأنضجتها الشمس. لأن جحا كان لا يأكل من البطيخة أيام توفرها سوى القسم الحلو الأحمر، ولأن الجو كان صحراوياً شديد الحرارة، صار شعوره بالعطش يتصاعد. أشعل العطش في حلقه وبطنه حرارة الشمس وحلاوة البطيخة، وكما تعرفون من ممارساتكم الغذائية المعتادة فإن السكريات تزيد الشعور بالعطش. حينئذ بدأ جحا يعود إلى قطع البطيخة التي رماها سابقاً في التراب فيمسح عنها الغبار هنا وينفخه عنها هناك وهو يتمتم، هذه لا بأس بها وهذه لازال بها بعض ما يؤكل، ثم جمع كل القشور القديمة في محفل ثوبه وحمل حطبه على رأسه عائداً إلى المدينة وهو في شدة الإعياء والعطش. خفف عن جحا مصيبته أنه وجد شيئاً باقياً من بطيخته القديمة، وإلا لكان هلك. ما كانت تمثله البطيخة لجحا نستطيع أن نتمثل به لما تقدمه الأوطان من ثروات حين يتم التعامل معها بطريقة النهم الاستهلاكي أو لنقل بلا مبالاة بالمستقبل. النفط والمعادن والمياه والأراضي الزراعية ومدرجات الجبال والسواحل والغطاء النباتي الطبيعي ومجاري الأودية والشعاب والثروة الحيوانية، كل هذه الأشياء هي الثروات الوطنية الحقيقية. جميع بلدان ما يسمى بالعالم الثالث قايضت ثرواتها الطبيعية بالأموال، والقليل منها فقط حاول جدياً تحويل بعض تلك الأموال إلى وسائل إنتاج مستقبلية. المكسيك، فنزويلا، نيجيريا، إندونيسيا، إيران، دول بحر قزوين، وكذلك جميع الدول العربية النفطية والغازية، كلها اعتمدت إلى حد بعيد على شراء حاجياتها ومستهلكاتها من ريع مبيعات النفط والمعادن والغاز. لا يوجد حتى الآن دولة نفطية واحدة نستطيع أن نقول إنها خرجت من عنق برميل النفط الاستهلاكي إلى فضاء وسائل الإنتاج والتصدير، مع بعض الاختلافات التفاضلية البسيطة هنا وهناك. الذي يهمنا من كل هذه الدول هو وطننا المملكة العربية السعودية. بالمقابل، ألمانيا واليابان تم تدميرهما بالكامل في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن لدى أي منهما ثروات طبيعية تذكر، لكنهما كانتا تمتلكان أسس وسائل الإنتاج، وهي العلوم النظرية والمهارات التقنية المختزنة في رؤوس الأفراد، وتلك هي أهم الثروات على الإطلاق. يسهل عندما توجد الإرادة تحويل المعرفة والتدريب المخطط والصارم إلى وسائل إنتاج، لكنه من المستحيل تحويل قشور بطيخة جحا من جديد إلى بطيخة كاملة. التسلسل المنطقي للاحتفاظ بالبطيخة وإنتاج المزيد من البطيخ أن يبدأ الإنسان بما يستطيع جمعه من ثروة ثم يستثمر هذه الثروة في أبناء الأجيال المتلاحقة، أي في العلوم والبحوث والمعارف والتقنية، لأنه يكون حينئذ قد توكل على الله وعمل ما عليه وفتح الطريق إلى المستقبل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.