هل هناك علاقة بين الموروث الثقافي والاجتماعي وممارسة الإدارة والقيادة بشكلها الحديث؟ علماء الاجتماع بالتأكيد لهم مقولاتهم في هذا الشأن، لكن دعونا نستحضر أربع سمات ثقافية رئيسة كانت وربما لازالت سائدة في ثقافة ابن الصحراء ولها مكان بارز في تصرفاتنا الحديثة حتى ولو كان بمسميات مختلفة. مع ملاحظة أننا لسنا بصدد إجراء فحص دقيق لهذه الموروثات تاريخياً وثقافياً بقدر ما نستحضرها للإيضاح. السمة الأولى لبدوي الصحراء تكمن في عدم وجود فلسفة التخطيط طويل المدى والمحكم في حياته، فهو رحال لا يدري أين يكون مصيره خلال أشهر لأنه يجري خلف المرعى لماشيته، يومه بيومه كما يقال. مقارنة بمن يعيش في بلاد الثلوج فهو يدرك أهمية التخطيط لفترة الشتاء القارس الممتدة أشهرا وإلا قضي عليه من الجوع. في إدارتنا المحلية نستطيع القول بأننا نفتقد عملية التخطيط الدقيقة، كسمة شخصية للقيادي أو الإداري، لذلك تتغير خططنا (إن وجدت) ومشاريعنا بشكل عشوائي، ونكاد نفتقد وجود رؤى مستقبلية واضحة على مختلف المستويات، وكأننا نعيش وفق ثقافتنا الأصيلة لإنسان الصحراء الذي لا يستطيع تخطيط مستقبله البعيد. السمة الثانية تتمثل في مفهوم الغنيمة، فجزء من موروث ابن الصحراء يعتمد على شطارته في استحلال المرعى واستباحته حتى ولو قاد الأمر لطرد أصحابه أو قتلهم. أخذ ما لا يخصك من هذه الأرض شطاره وأنت راحل لمكان آخر بعد حين فلا يعنيك الحفاظ على الأرض أو المكان. هذا يحدث في مجتمعنا الحديث بطريقة أخرى تتمثل في عدم احترام المال العام والحفاظ عليه، حتى أن البعض يرى الشطارة في أن تكسب ولو بطرق ملتوية من المال العام قدر الإمكان. ليس هناك حرمة للمال والممتلكات العامة. السمة الثالثة تتمثل في عدم الثقة في الغريب، فالبدوي الرحال لا يثق سوى في المقربين جداً إليه، وبسبب مفهوم الغنيمة والسطو المشار إليه أعلاه، لا يمكنه وضع يده في يد الآخرين للقيام بأعمال جماعية كبرى. من هنا نرى في إداراتنا تقريب ابن العم والقريب وتمييزه على الآخرين حتى ولو كان هناك من هو أكفأ منه، لأن القيادي وبثقافته الموروثة يشعر بحاجته للعزوة والحماية من قبل المقربين كما يشعر بعدم الثقة في غير المقربين. من هنا ينشأ التحيز والتعصب والعنصرية العائلية والمناطقية والقبلية وغيرها. السمة الرابعة تتمثل في العمل الجماعي، فالبدوي الراحل الذي لا يعنى بعمار الأرض، ولا يثق في غير المقربين، يحتاج أو يسعى لاتخاذ القرارات بشكل كتوم ولا ينتظر كثيرا من المساعدة من قبل أفراد كثر. مقارنة بالمستقر الذي يحتاج مساعدة الآخرين في الزرع والحصد والبناء ولا يمكنه الرحيل بسرعة تاركاً ما قام بعمارته. هذه السمة نلحظها في إداراتنا التي تميل إلى اتخاذ القرارات الفردية ضمن دوائر ضيقة دون إشراك مجموعات كبيرة في صنع القرار وتطويره. تصدر قرارات أحياناً بشكل غير مدروس بما فيه الكفاية لأنه لم يتم إشراك فئات متعددة وذات خلفيات مختلفة في صنعها. الخلاصة هي بأن بعض سلبياتنا المعاصرة ذات جذور ثقافية عميقة، وهي ما يقود إلى بعض مظاهر الفساد دون وعي كاف أحياناً من البعض بسلبية ذلك وفق المفهوم الثقافي المشار إليه. هذا يعني أن محاربة السلبيات والفساد يتجاوز مجرد التنظيمات الإدارية، إلى العمل الجاد لنقد وتغيير الثقافات والقناعات السائدة، وإحلال قيم حديثة مكانها. مثل قيم التخطيط واحترام المال العام والبعد عن العنصرية والتحيز ومشاركة الآخرين في صنع القرار... إلخ.