حكا العم مصلح عن قصة سالم وهو بدوي يعيش في قرية صحراوية وحدث ان استأنس ذئبا تصاحب معه وصار يرعاه ويعتني به حتى ألف احدهما الآخر وبدأ الناس يتحدثون عن الذئب وصاحبه، وكان الذئب يعيش على أطراف القرية ما جعله مصدر خوف من رعاة الغنم وفي يوم من الأيام جاء رجل من أصحاب الأغنام وقتل الذئب، وشاع الخبر بين الناس وصار حديثاً لهم، وكلما أقبل قاتل الذئب أشاروا إليه وقالوا هذا هو قاتل صاحب سالم، وزاد القول في ذلك حتى بلغ وجع الخبر إلى شغاف سالم ولما اشتد عليه الأمر دخل على قومه وترجاهم بأن يقولوا: هذا هو قاتل الذئب ويكفوا عن قولهم قاتل صاحب سالم وشدد في الرجاء ولكن القوم ظلوا يرددون قولتهم عن قاتل صاحب سالم كلما مر اسم الرجل، فما كان من سالم إلا أن حمل بندقيته وقتل الرجل على مشهد من الناس وقال لهم: أنتم الذين قتلتموه. كل ذلك لأن الصحبة غالية ولم يطق سالم صبراً على قاتل صاحبه، ولو كف الناس عن استخدام ذلك التعبير لهانت القضية على سالم ولنسي الأمر، ولكن إصرار الناس على الربط بين سالم والذئب والقاتل والصحبة هي ما أدى إلى مقتل الرجل. هذه قصة تدخل مع مفهوم (قطع الوجه) كما أسلفنا في الحلقة الماضية، وهي عرف ثقافي يربط بين وجاهة الاسم وحصانة الحدث، والاسم ليس صحبة فحسب بل هو قيمة اجتماعية وتاريخية وسجل نفسي بما إنه علامة فاصلة بين ذات وذات وهو المكون لمنظومة الصفات والسمات الشخصية والمعنوية.. ولذا فإن كلمة صاحبة فلان تصبح عبئاً اجتماعياً يلزم الرجل بتبعاته ومردوده. للصحبة والرفقة قيمة مصيرية في الصحراء لأن الصاحب هو الدرع الواقي والصحراء مهلكة وخطر دائم ولا يحمي من المخاطر سوى الرفيق والصاحب ولذا لزم اعتماد معنى خاص للرفيق والصاحب تحميه القصص والحكايات وتعزز موقعه الثقافي، ولو جرى إهمال هذا المفهوم فإنه سيجري فقدان أهم وأخطر وسائل التحصين الأمني في حركة البشر. تلك معان صحراوية وبدوية، وهو ما فقدته المدينة لتقلص ضرورته، وربما أصبح مفهوم الرفيق والصاحب محل ندرة حضارية، ونذكر هنا القصة المشهورة جداً وهي قصة خفي حنين، وهو إسكافي من الحيرة وقد جاءه أعرابي ليشتري منه خفا وأثناء المبايعة تفوه الأعرابي بقول لم يعجب حنيناً فأضمر الانتقام ولذا راح حنين وسبق الاعرابي إلى طريقه ووضع أحد الخفين في مكان ثم وضع الآخر في مكان أبعد منه، وحينما مر الأعرابي ورأى الخف الأول أعجبه وقال: ما أشبه هذا بأحد خفي حنين ولو كانت الفردة الأخرى معه لأخذتها وانصرف في طريقه ليجد الخف الآخر في موقع يبعد عن الأول قليلاً وهنا ترجل الأعرابي عن راحته وعاد ماشياً لأخذ الخف الأول، ولما عاد ومعه الخف لم يجد راحلته وكان حنين قد سرق الراحلة وما عليها وترك له الخفين، وراح الأعرابي إلى قومه بخفي حنين وقد فقد كل ما يملك، وانتهت القصة لتكون طرفة ثقافية ومثلاً يروى ويحكى دون حياء ولا خجل من الغدر والخيانة والتحايل. هنا تظهر الفروق الثقافية بين ثقافة (قطع الوجه) وما فيها من حصانة وتحصين للاسم، وبين ثقافة المدينة التي نرى في هذه القصة أن البطل معروف باسمه وبمكانه وبمهنته ومع ذلك لم يخجل هو ولم تخجل الثقافة معه من الحدث وتمادت الثقافة المدنية في تقبل القصة حتى جعلتها مثلاً يروى وقصة تسجل بالأسماء والأماكن. إننا هنا أمام مفارقة ثقافية كبرى شهدتها الثقافة الإنسانية، وتأتي هذه المفارقة من الاختراع الثقافي الخطير وهو اختراع الحيلة والكذب بوصفها شرطين سلوكيين، وبدأ هذا من زمن التدوين الأسطوري المبكر في أسطورة هرميس، وهو الطفل الأسطوري الذي نهض من مهده ليسرق قطيع غنم، ثم يعود لينام في مهده وحينما أقاموا عليه الحجة في المحكمة رد عليهم قائلاً للقاضي: كيف أسرق يا سيدي وأنا رضيع في مهده كما تراني، وتخلص من الحكم بهذه المرافعة الكاذبة، وجاء اسمه في الأساطير ليكون ربا للبلاغة والتجارة على أساس التصور أن هذين الفنين يقومان على ركيزتي الكذب والحيلة، وفي قصص اجتياح الأوروبيين لأمريكا يروي تودوروف حكاية رجل من الهنود الحمر يسأله المبشرون هل اقتنع بالمسيحية والتزم بممارستها فيرد عليهم بأنه مسيحي صغير وبشيء قليل، وعلل ذلك بأنه قد بدأ يتعلم الكذب وأنه صار يكذب قليلاً قليلاً ووعدهم بأن يكذب أكثر وأكثر لكي يكون أكثر مسيحية وأقوى التزاماً. لم يكن الهندي يعرف الكذب في حياته الأولى ولما جاء الأوربيون ورأى الكذب في تصرفاتهم ووعودهم تصور هذا المسكين أن الكذب مهارة حضارية وكلما كذب المرء صار أكثر تحضراً وأكثر تماثلاً مع المتحضرين. وفي ثقافتنا كان الشعر خطاباً إنسانياً ووجدانياً دقيق المعنى حتى وصف عمر بن الخطاب زهيراً بأنه لا يمدح الرجل إلا بما هو فيه، ولكن النابغة والأعشى جاءا ليخترعا فن المديح الكاذب، وهو مديح مدني نشأ مع نشوء دول العرب الشمالية وملوكهم من المناذرة والغساسنة. على أن الشعر عند البادية الأصلية ظل صادقاً حتى في المديح ولم يكن الشاعر البدوي يمدح طلباً للمال ولكنه يثني على قيم المروءة والخلق ومعهما الشجاعة والكرم، إلى درجة أنه يمدح عدوه إذا صار صاحب خصال حميدة، هذا ما أنقله عن شيخنا الأستاذ عبدالرحمن البطحي، (وكذا في مخطوط ابن عبيد: النجم اللامح ص 311) ولكن الأمر تغير حيث صار التكسب بالشعر ديدناً ملازماً ودخل الكذب من أوسع الأبواب. للوجه قيمة ثقافية ترمز لها الثقافة بمصطلح الوجاهة، وتؤكدها الحكايات المروية بما إن الحكي يمثل مدرسة تربوية تتنشأ عليها ذاكرة المجتمع، وفي العراق قصة تقول ان بدوياً من ضمن بادية تأتي للعراق لتمتري وتتسوق، وكان من ديدن البدو أن يحضروا معهم السمن والضمير ليقايضوه بالتمر والتمن، وفي عام جاؤوا كالعادة ليسدوا حاجتهم لكنه كان عام قحط ولم يكن في أيديهم ما يمتارون به، ولذا أخد كل منهم يسلك طرقاً للاستدانة لأخذ الزاد، وبقي بقية لم يجدوا وسيلة لتحصيل شيء وكان منهم بدوي واحد ظل يروح ويجيء بين الدكاكين طالباً للتمر، ولكن لا جدوى إذ لم يكن لديه ما يضمن به السداد في العام القادم، وزاد تردد البدوي هذا على بائع محدد، وحينما كثر الترداد والإلحاح قال له التاجر: سأعطيك تمراً ولكن بشرط أن ترهن لدي شعرة من شاربك تضمن لي بها التسديد في العام المقبل، ورفض البدوي تسليم شعرة من شاربه وراح يلف السوق مرة ومرات وفي كل مرة يناديه التاجر العراقي ويعرض عليه العرض نفسه ولكن البدوي يرفض، ولما مضى النهار وأخذ اليأس من البدوي مأخذه راح إلى التاجر العراقي وقال له: خذ شعرة من شاربي ولكن بعد أن أغمض عيني وأدير وجهي ناحية الجدار، وهذا ما فعله العراقي الذي لاحظ دمعة تنزل من عين البدوي مع نتفة شعرته، وأخذ البدوي التمر ومضى، وفي طرف السوق قابله زميل له وتعجب من التمر الذي معه وعلم منه بالخبر، وهنا راح البدوي الثاني إلى العراقي وقال له أعطني تمراً وخذ شعرة من شاربي أرهنها عندك إلى العام القادم، فقال له العراقي هات الشعرة، وهنا مد الرجل يده إلى شاربه ونتف منه شعرة بسرعة خاطفة وبنفس باردة وقال له: خذ هذه الشعرة.. فما كان من العراقي إلا أن رفض الشعرة وقال له: هذه ليست شعرة موفي، ورفض أن يعطيه طلبه. هذه قصة تبين معنى الوجه بوصفه قيمة ثقافية وتحصيناً معنوياً وتفرق بين وجه ووجه، والشعرة هنا صارت قيمة دلالية كاشفة تنبأ عن المضمر وتدل على النية. (روى لي القصة الدكتور سعد الحديثي وهي تراث عراقي مسجل).