بلاغة (1) لئن كان لكل خير مواسم، ولبعضها مناسبات أفراح فإن شهر رمضان هو موسم جميع المسلمين الذي تتنافس فيه معطيات الخير في نفوسهم وتبرز معاني فطرهم الطيبة متحدية كل نوازع الشر والعبث. شهر الصيام سيد الشهور كما أتى في الأثر المشهور ولم يزل في سالف الدهور محترماً ذا بهجةٍ ونور فيه كما في الخبر المذكور نُزَّل بالتوارة يوم الطور والذكر والإنجيل والزبور فاستكثروا فيه من القصور في جنة الخلد بلا قصور واجتنبوا اللغو وقول الزور وانتبهوا للعرض والنشور قبل حلول ظلمة القبور بلاغة (2) إن من يحرم إشراقات أيام وليالي رمضان المباركات وما خصها بها عز وجل من نعماء ومن جزيل العطاء، فإنه بلا شك قد حُرم الخير الكثير والفضل الذي لا يعوض في باقي الأيام. أيا معشر الصوام وافتكم البشرى وقد نشر الباري بمدحكم ذكرا خُصصتم بشهر فيه عتق ورحمة وقد أجزل الرحمن للصائم الأجرا ولله في العشر الأواخر ليلة لقد عظمت أجراً كما مُلئت خيراً فطوبى لقوم أدركوها وشاهدوا تنزل أملاكٍ بها آية كبرى وفازوا بغفران الإله فأصبحوا يُشم عليهم من شذا عرفها عطرا بلاغة (3) كان أحد الحدادين يعمل في ظهيرة يوم حار من أيام شهر رمضان، وكان جبينه يتصبب عرقاً، فقيل له: كيف تتمكن من الصوم والحر شديد والعمل مضن؟ فأجاب: مَنْ يدرك قدر من يسأله، يهون عليه ما يبذله!!. طوبى لعبدٍ صام لله عن مطعومه شهراً ومشروبه وصانَ عن قول الخنا صومه ولم يشبه بأكاذيبه والتمس الأجر على صومه من ربه في ترك محبوبه فالصوم لله صح عن نبيه والله يجزي به بلاغة (4) لقد خصَّ الله عز وجل شهر الصيام بخصائص منها: أنه سبحانه وتعالى جعله شهراً مباركاً وجعله شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وجعل فيه ليلة خير من ألف شهر، وجعل صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، وهو شهر المواساة، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الظمأ والجوع من حدتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب. بلاغة (5) طلب بعض الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم عن شهر رمضان هذا الشهر العظيم، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الجنة لتُزين لرمضان من رأس الحول إلى حول، فإذا كان أول رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق أشجار الجنة، فتنظر الحور إلى ذلك فيقلن: يا ربنا اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجاً تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا. ثم قال عليه الصلاة والسلام: فما عبد يصوم يوماً في رمضان إلا زُوِّج زوجة من الحور العين في خيمة من درة. إنَّ شهر الصيام مضمار نُسك وسباق إلى رضا المبعود حلبة خيلها الصيام مع النُسك وإدخالها جنانَ الخلود بلاغة (6) كان المسلمون يقولون عند مقدم رمضان استقبالاً له: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له وارزقنا صيامه وقيامه وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط وأعذنا فيه من الفتن. ورد عن معلى بن الفضل- رحمه الله- قوله: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم. أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد فمنْ زرعَ الحبوبَ وما سقاها تأوّه نادماً يومَ الحصاد بلاغة (7) إن لشهر رمضان في الإسلام أسماء منها: أنه شهر القرآن وشهر الغفران، وشهر العتق من النار، وشهر الله، وشهر الآلاء، وشهر النجاة، وشهر الصبر، وشهر المواساة، وشهر الخير، وشهر الكرم، وشهر البركات والخيرات، وشهر إجابة الدعوات، وشهر الإحسان، وشهر الرحمة. يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم. إذ يبالغ المرء أشد المبالغة ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء وسبب الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة. فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس. بلاغة (8) قال بعض السلف: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. إذا لم يكن في السمع مني تصاونٌ وفي بصري غضٌ وفي منطقي صَمْتُ فحظيَّ إذا من صومي الجوعُ والظمأ فإن قلتُ إني صُمْتُ يومي فما صُمْتُ أية معجزة إصلاحية أعجب من معجزة شهر رمضان المبارك التي تقضي أن يُحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة، ليحلَّ في محله تاريخ النفس. بلاغة (9) ورد أنَّ مَنْ أتى عليه رمضان صحيحا مسلماً، فصام نهاره وصلى ورداً من ليله، وغضَّ بصره، وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته جماعة، وبكر إلى الجمعة، فقد صام الشهر واستكمل الأجر وفاز بجائزة الرب، التي لا تشبه جوائز الأمراء. وصدق قتادة رحمه الله حين قال: مَنْ لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر له. ترحلَ شهر الصبر وا لهفاه وانصرما واختصَّ بالفوز في الجنات مَنْ خدما وأصبح الغافل المسكين منكسراً مثلي فياويحه يا عُظم ما حُرما مَنْ فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصدُ إلا الهمَّ والنَّدما بلاغة (10) أتى شهر رمضان، ونحن غافون عن الثواب الكثير، ساهون عن المُلك الكبير، لاهون عن لباس السندس والحرير. في شهر رمضان أنزل الله كتابه، وفتح للتائبين أبوابه، فلا دعاء إلا مسموع، ولا عمل إلا مرفوع، ولا خير إلا مجموع، شهر السيئات فيه مغفورة، والأعمال الحسنة فيه موفورة، والمساجد معمورة، وقلوب المؤمنين مسرورة. أينَ أهلُ القيام لله دأباً بذلوا الجهدَ في رضا الجبّار أنتمُ الآن في ليال عظام قدُرها زائدٌ على الأقدار عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية