أتذكر أنه في بدايات عملي في التعليم، أن زارني (موجِّه الاجتماعيات) - يسمّى الآن مشرفاً تربوياً -، ونظراً لكوني أدرس في مدرسة، حظها التعيس، وحظي معها، أنها في مبنى مستأجر، في أحد الأحياء المتواضعة، ولهذا كانت فصولها ضيّقة كما هو فصلي (3 في 4) وكان جزء منه في الأصل - أكرمكم الله - حماماً، وعدد الطلاب حوالي العشرين طالباً، حتى إن الصف الأول من طلابي، يكاد يلتصق بالسبورة!! عندما وقف الموجِّه التربوي على الباب، وأرسل نظره إلى أنحاء فصلي حار في أمره، فأين يجلس؟! وحيرتي ليست بأقل من حيرته، فأين أجلسه؟، فالفصل كما يرى ليس قاعة لكنه - يشهد الله - لم يكن ليحد من طموحي في العمل، ففكرت في أن يجلس إلى جواري، وأنا الواقف أمام السبورة، وخطواتي محسوبة بالسنتمتر!، فأجلسته إلى جواري تحت السبورة فله جانبها الأيمن، ولي جانبها الأيسر، وما إن بدأت حصتي، ورحبت بالضيف والذي يُعد من قدماء الموجهين، وقطعت شوطاً من المقدمة أو التهيئة الجذبية للدرس، حتى بدأت ألمح على الموجِّه الضيق والانزعاج، بسبب ضيق المكان وجمود حركته، وتطاير ذرّات الطباشير على ملابسه، وقد أدركت شعوره بالتبرم عنده، بمجرّد أن «فك رقبة الثوب «، وكأنه شعر بحالة اختناق بسبب حشره في الزاوية، كان صاحبي، أقصد ضيفي الموجّه، يرتدي نظارة سوداء، وكان كلما أراد النظر إلى السبورة، ليتابع ماذا أكتب عليها؛ انهال عليه فتات الطباشير، فيضطر إلى خلع نظارته؛ ليمسحها بطرف «شماغه»، مما علق بها، كان يفعلها في كل مرة يلتفت فيها إلى السبورة، مع شيء من تأوهات الضيق الذي وصل به حد الانفجار، سارت الأمور كما تتخيلون، مما دعاني إلى أن أشفقت عليه، وفي نفس الوقت قلت لعله يحس بمعاناتي، إلاّ أن حالة الإشفاق دعتني إلى تذكُّر قول الشاعر: «فلما شجاني حاله وأفزني وقفت وكلي مجزع وتوجعُ « المهم أن الضيف لم يهنأ بزيارته، كان يمنيها نفسه بعد أن ذكر له مدير المدرسة بأنّ صباحك فأل طيب ابدأ بهذا المعلم، ولا أعلم أي صباح كان عليه، فقد تعقّدت أمور الزيارة، وذلك حينما أردت أن استخدم «خريطة» وهي الوسيلة التعليمية التي أحضرتها للدرس، ولم أعرف أين أثبتها، لطولها وعرضها، ولم يكن لي بد من تثبيتها على أعلى السبورة، وما أن قمت بمحاولتي، حتى كاد طرف الوسيلة، أن يطير بعين الموجّه، إلاّ أنّ إصراري أنجح تثبيتها أخيراً، ولست أعلم هل قبِل اعتذاري أم لا؟ المهم أخذت بحماس أناقش الطلاب في محاور الدرس على الخريطة، وفجأة وبدون سابق إنذار، وأنا ألامس الخريطة، لم يكن من أمرها؛ إلا أن هوت على «أم رأسه»، فأطارت عقاله، وحينما أراد لحاقه والإمساك به قبل أن يلامس أرضية الصف ويغبر، حتى وقع سجله الصغير الذي كان يحتضنه، وقد سجل فيه كل شاردة وواردة عليَّ، ولأنّ الضيف فقد صبره، ولم تعد ترضيه ابتسامتي للتخفيف من انزعاجه ولم تعد تقنعه كثرة اعتذاراتي إليه، فما كان منه إلاّ شكري وتقديري، مستأذنًا بالمغادرة، وكأني به وهو ينهض ولسان حاله قول الشاعر: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيثما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت