يهمني متابعة ردود القراء على كتاب الرأي الورقي والإلكتروني أكثر من اهتمامي بمقالات الكتاب أنفسهم. الكاتب عادة يكون قد عرف بنفسه وفكره ومفاهيمه منذ البدايات. بحثه عن التنوع يكون إما لثراء فكره وتراكم ما يريد التنفيس عنه، أو لإعادة الطرق الفكري لكي تنفتح بعض النوافذ المغلقة، أو لتبرير الاستمرار لأسباب وجاهية أو مادية. قبل سنوات ليست بالكثيرة كانت الكتابة الجريئة في الشأن العام نادرة والسائد مجرد إنشائيات تهتم بالأسلوب والجمع بين التطريزات اللغوية والطرائف واللطائف. أما الفكرة أو الزبدة فمجرد رغوة لا تغني من جوع. لذلك كانت مشاركات القراء تأتي من نفس النوع ليصبح الموضوع كله مثل الوجبة المكررة والخالية من الطعم والدسم. عندما تنشر مقالة بها بعض النكهة الشهية كان القراء يتناقلون محتوياتها في المجالس همساً، هل قرأتم ما كتبه فلان، هل اطلعتم على الصفحة كذا من الجريدة الفلانية؟ يا سلام سلم على الكاتب والجريدة. كانت ردود القراء أيضاً بطريقة قل كلمتك وامش والله يستر عليك. نحن الآن نعيش مع العالم فترة تحول جماهيري تمور بتبادل الأفكار وتنوع الآراء والمواضيع، مع زيادة هائلة في أعداد القراء ومشاركاتهم بحوارات تكون غالباً أفضل فكراً وعرضاً من مستوى الكاتب نفسه. في بداية الانفتاح على هذه الطفرة الواعدة، أي قبل سنوات تعد على رؤوس الأصابع كانت الأغلبية الكاسحة من مشاركات القراء ردوداً عاطفية تتصيد بين الكلمات والسطور ما تستطيع أن توظفه على أنه تعديات من الكاتب على شيء من الثوابت الشرعية والخصوصيات الاجتماعية، لتبادر بتوزيع الاتهامات بالعلمانية والتغريبية وحقن السم في العسل. عندما ينشب بعض التراشق بين أحد كتاب الرأي وإحدى الشخصيات الممنوعة من المس واللمس والجس، كان السائد المتكرر في ردود القراء منافحات ومناوشات ضد الكاتب ومعايرة له بنقص العلم والعقل، وإلا فكيف تسول له نفسه الدخول فيما يعتبر احتكاراً معرفياً على أناس دون غيرهم. مع سهولة الحصول على المعلومة واطلاع الناس على بعض الممارسات غير المتوقعة، وتكرر التعدي بالقذف والدعاء بالدمار الشامل والاتهام في العقيدة والعرض ممن يفترض بهم الورع والإنصاف والتقوى، هنا بدأت ردود القراء تتبلور نحو اتجاه البحث عن الحقيقة الغائبة. بدأ القراء يدركون أن كتاب الرأي المختلف ليسوا بالمطلق وفي كل ما يكتبون على خطأ، وأن من يحتكرون النزاهة والحقيقة لأنفسهم لم يكونوا دائماً فيما يدّعونه على صواب. عندئذ بدأت ردود القراء تميل تدريجياً نحو التدقيق في الآراء والأشخاص. ترتب على حركة بوصلة الرأي باتجاه الوسط هرولة مذعورة ممن كانت بأياديهم مفاتيح العقول والإقصاء والتزكية نحو اتجاه البوصلة، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المتاع والأتباع. اتضح ميدانياً أنهم مثل غيرهم يرصدون البوصلة الاجتماعية واستحقاقاتها ويدركون أنها متجهة نحو المشاركة في الرأي والحقوق والواجبات والوطن الجامع للجميع. نوعية ردود القراء أصبحت تتجه باطمئنان نحو منطقة الاعتدال، وذلك يصب في مصلحة من يهمه المستقبل ويريد التحرك إلى الأمام.