كثيرة هي الوقائع الشيقة والأحداث الغريبة المدفونة بين جلدتي كتب التاريخ، بعضها فيها الطرافة والعجب، وبعضها فيه العبرة والعظة، وما لم نفتش الصفحات فستظل مدفونة مجهولة، فما رأيكم أن نمشي على ضفاف أنهار الماضي قليلاً؟ سلسلة جديدة نبدأها اليوم باسم الله: الجزيرة نيوزيلندا دولة على جزيرة قرب أستراليا، ومثل أستراليا فهي كانت تسكنها قبائل من المواطنين الأصليين واستعمرها الأوروبيون حتى صاروا هم أكثر أهلها الآن. القبيلة التي كانت تسكن نيوزيلندا اسمها قبيلة «ماوري»، وقبل بضعة مئات من السنين اجتمع بعضهم على سفينة وانطلقوا مبحرين في المحيط الهادي لغرضٍ ما، ولعلهم ضاعوا أو حصل لهم حاصل، ولكن في النهاية وصلوا لجزيرة غير مأهولة على بعد 500 كم من بلدهم الأصلي. لم يكن هناك أجهزة اتصال متطورة آنذاك ولا وسائل نقل سريعة، لذلك فقدوا تواصلهم مع بلدهم الأصلي ومع بقية القبيلة، ورضخوا للواقع، فسكنوا الجزيرة وعمروها، وتدريجياً صار لهم ثقافتهم الخاصة بما في ذلك من لباس وطقوس وما أشبه، وسموا أنفسهم شعب «موريوري». مرت مئات السنين وقبيلة موريوري الصغيرة هذه تعيش وحيدة على جزيرتها دون اتصال مع العالم، لكن القبيلة الأصلية «ماوري» على جزيرة نيوزيلندا كانت قد احتكت مع الأوروبيين، وصار هناك قرابة ألفين من الأوروبيين يعيشون في الجزيرة، وتعلم شعب الماوري منهم صنع الأسلحة النارية وأدوات الحرب، وكانوا مسالمين قبل ذلك ولا حاجة لهم في العنف. ثم في يوم من الأيام في عام 1830م انطلقت مجموعة من القبيلة الأصلية (الماوري) في رحلة بحرية لصيد حيوانات الفقمة، وانتهى بهم المآل إلى تلك الجزيرة الصغيرة البعيدة والتي سكنها إخوانهم والذين صار اسمهم الآن شعب موريوري. لما حطوا رحالهم، نوى الماوري استعمار الجزيرة، وأخذوا في قتل أهل الجزيرة قتلاً ذريعاً، لم يفرقوا بين امرأة ورجل وطفل، واستعبدوا بعض نساء الجزيرة وأخذوهن سبايا، وأما المورياري فلم يقاوموا، ذلك أنهم لم يعرفوا العنف أبداً. الجزيرة البشر أوشكوا على الانقراض ذات مرة! هذه نظرية على الأقل. في عام 2008 نشرت مجلة أمريكية اسمها «المورثات البشرية» مقالاً يفيد بأن دراسة عن المورثات البشرية (أو الجينات) أجراها بعض الباحثين وجدت أنه قبل قرابة 70 ألف سنة كان البشر قاب قوسين أو أدنى من الانقراض. وجدوا أن ظروفاً مناخية وبيئية قاسية قد قتلت غالبية البشر، ولم ينجُ إلا 2000 شخص عاشوا كمجموعات صغيرة متفرقة في أفريقيا، ونظريتهم أن هؤلاء الألفين نتج من نسلهم جميع أهل الأرض اليوم والبالغ تعدادهم 6 مليارات ونصف مليار بشري. الجزيرة في عام 1529م كان حصار فيينا على أشُدّه. طوق العثمانيون مدينة فيينا في النمسا بمائة وعشرين ألف جندي و 300 مدفع، وكان الخليفة العثماني سليمان القانوني قد نوى غزو النمسا وجعلها إقليماً عثمانياً عقاباً لغدر النمساوين والذين احتلوا المجر التي كانت تحت نفوذهم، وحررها المسلمون لاحقاً في معركة موهاج والتي سُحِق فيها المجريون، وبث انتصار المسلمين موجة من الرعب خلال أوروبا كلها، و أتى الدور الآن على النمسا، ولما اشتد الحصار استنجد الحاكم النمساوي فردناند (وهو صاحب خطة غزو المجر) بأخيه تشارلز حاكم أسبانيا ولكنه لم يجب، حينها هبت الدولة الصفوية الفارسية وهاجمت الدولة العثمانية من الخلف، هاجمت بغداد، واضطر هذا العثمانيين أن ينهوا الحصار ويعودوا لحمايتها. لا زال المؤرخون يناقشون ما كان يمكن أن يتم لو أن العثمانيين نجحوا، لتغيرت خريطة أوروبا إلى اليوم. الجزيرة لما عاد المسلمون بعد إنهاء الحصار المذكور تركوا وراءهم بعض أمتعتهم، كان منها القهوة، واستولى عليها النمساويون وجربوها وقاموا بالإضافة عليها وتحسينها، وبدأ هذا المشروب الجديد ينتشر ويكتسب شعبية واسعة خاصة بعد التعديلات التي قللت من مرارتها. يعتقد الفيلسوف الكندي ستيفن هيكس أن المسلمين قد يكونون من أعطى أوروبا حضارتها (بدون قصد)، ذلك أن أوروبا قد اعتادت لمئات السنين أن تستيقظ وتنام على الكحول، فيظل الأوروبي مخموراً خاملاً متبلداً من أول اليوم لآخره، لكن مع انتشار القهوة صار يصحو نشيطاً منتبهاً، وزاد هذا من إنتاجية الأوروبيين وتركيزهم في عملهم، ويرى هيكس أنها ليست مصادفة أن يتزامن ما يسمى «بعصر التنوير» في أوروبا مع هذه الإضافة الجديدة، وهو عصر النهضة العلمية الغربية، وكان عصر التنوير قد بدأ في القرن الثامن عشر الميلادي، أقل من قرنين بعد حصار فيينا.