«فلان لا خير فيه لربعه وجماعته» مقولة أصبحت جزءاً من أدبياتنا الاجتماعية. لا اعتراض على هذه المقولة، لو كان الخير المرتجى من فلان مقدماً من ممتلكاته الشخصية ووقته ومجهوده الخاص، وليس من المال العام أو على حساب مصالح الآخرين وأدوارهم في الحصول على حقوقهم الخدمية والإجرائية حسب النظام وأقدمية الحضور وتقديم الطلبات. ذهبت يوماً إلى الإدارة البلدية في مدينة إيرلانجن الألمانية حين كنت طالباً هناك لتجديد وثيقة الإقامة. فوجئت بأن الألماني الذي كنت أسكن مستأجراً عنده يصطف مع بعض الألمان منتظراً دوره للوصول إلى الموظف المسؤول عن تجديد الجوازات العائلية قبل السفر مع عائلته في إجازة الصيف إلى إسبانيا. كنت أعرف أن الموظف المسؤول عن تجديد جوازات السفر ما هو إلا الأخ الشقيق لصاحبي الألماني ذاك. بعد تبادل تحية الصباح سألته لماذا هو واقف ينتظر، ولماذا لم يعط جوازات سفر العائلة لأخيه من قبل لإنهاء الإجراءات دون الحاجة إلى الحضور شخصياً إلى الدائرة الحكومية. الإجابة كانت ألمانية بامتياز.. هكذا: ماذا؟ هل أنت تمزح؟. ثم أدار لي كتفه تعبيراً عن الامتعاض من السؤال. ما زلت أقارن ذلك الموقف في علاقة المراجع بالموظف هناك بمثيله عندنا. المتعارف عليه في مجتمعنا أن من له قريب أو صديق في أحد الدوائر الحكومية الهامة يصبح كمن يمتلك مصباح علاء الدين، ليس لتسهيل إجراءاته هو فقط بل لتسهيلها لكل معارفه وأصدقائه ومن يستفزع به. الوجه الآخر لهذه العملة المحلية هو أن الموظف الحكومي الذي يرفض أو يتلكأ في تقديم هذه الخدمات حسب المتعارف عليه يعتبر لا خير فيه وقليل المروءة. هل نحن من الآن متفقون على أن الإجراءات في الدوائر الحكومية عندنا تخضع في معظمها لمبدأ الانتفاع والتنفيع وتبادل الخدمات الشخصية على حساب النظام أم لا؟ من يقول لا، لا فائدة له من متابعة القراءة لأن الموضوع هنا يسير في غير اتجاه رأيه. أغلب الخطوات الإجرائية تدار في دوائرنا الحكومية بطريقة الوساطة وتبادل الخدمات والمشاركة في الفوائد والعوائد، ولا شك في ذلك. وهذا يقودنا إلى سؤال مهم: هل يرجى نجاح أي إصلاح إداري يقضي على الارتشاء والفساد وتسرب أموال المشاريع وسوء تنفيذها إذا كانت الأمور الإجرائية تدار بطريقة الانتفاع المتبادل هناك في دهاليز وزنقات البيروقراطية الحكومية، وبمعزل عن أنظمة الدولة وأجهزتها الرقابية؟ كفاءة الجهاز الإداري والإشرافي والرقابي على كل خطوات المنافع والمشاريع مقدمة على النوايا الحسنة وعلى ضخامة الأموال المرصودة. ربما كان العكس هو الصحيح، فكلما كانت النوايا العليا من فوق متفائلة بنزاهة كوادرها الإدارية وكريمة في رصد الأموال الضخمة تناسب ذلك طردياً مع حجم الفساد الإداري ومغريات الانتفاعات الفرعية من تلك الأموال. بمعنى آخر.. المفترض بالقيادة أن لا تفرط في ثقتها بأجهزتها التنفيذية في أي مكان حتى في بناء أماكن العبادة بقدر ما يفترض بها التوجس والتحوط وإحكام الرقابة وتدقيق الحسابات بالهللة قبل الريال، وإلا فإن المال السائب يعلم السرقة. إنني متفائل جداً بقرار خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بتشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد وبإسناد الإشراف عليها إلى رجل معروف بنزاهته وصرامته وإخلاصه. مع ذلك يبقى في قلبي خوف دفين ومبرر لكثرة التجارب من قدرة رمال الفساد المتحركة على إضاعة الطرق والمسارات ومن مهاراتها في التعمية والتضليل وتضييع الوقت حتى يتسرب اليأس إلى أشد القلوب مراساً ومثابرةً. كل ما ذكرت محاولات تتبع وكشف الفساد المالي والإداري في البنى التحتية لمدينة جدة والأنفاق التي تغرق وتغرق الناس في مدننا الكبيرة والمباني التي تتصدع بعد استلامها مباشرةً والطرق التي تتشقق وتتفطر قبل العشر من عمرها الافتراضي، والمشاريع التي تكلفنا أضعاف تكاليفها في الدول الأخرى، كل ما ذكرت ذلك تملكني الخوف من القدرات الرهيبة لمافيا وثعابين وعقارب الفساد. ما أحاول قوله هنا، مع دعائي المخلص للهيئة الجديدة بالتوفيق، هو أن الحساب يبدأ من الصفر ثم يرتفع إلى أرقام أعلى، وأن أماكن الرقابة الأولى يجب أن تبدأ في ميادين التنفيذ حيث يتصرف الموظف الصغير على هواه لأن هناك من يغض الطرف عنه لأسبابه الخاصة، ولأنه يخشى من تصنيفه في خانة من لا خير فيه لنفسه وأهله وربعه وجماعته. من هناك يمكن تعقب آثار الفساد درجة درجة وصفحة صفحة حتى خاتمة الكتاب.