الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد كثر في هذا الوقت الكلام في العذر بالجهل؛ ما سبَّب في الناس تهاوناً في الدين، وصار كل يتناول البحث والتأليف فيه؛ ما أحدث جدلاً وتعادياً من بعض الناس في حق البعض الآخر. ولو ردوا هذه المسألة إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى أهل العلم لزال الإشكال واتضح الحق كما قال الله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (83) سورة النساء، وإذاً لسلمنا من هذه المؤلَّفات والبحوث المتلاطمة التي تُحدث الفوضى العلمية التي نحن في غنى عنها؛ فالجهل هو عدم العلم، وكان الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فلما بعث الله هذا الرسول وأنزل هذا الكتاب زالت الجاهلية العامة ولله الحمد قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة، فالجاهلية العامة زالت ببعثته صلى الله عليه وسلم، أما الجاهلية الخاصة فقد يبقى شيء منها في بعض الناس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية». والجهل على قسمين: جهل بسيط، وجهل مركَّب. فالجهل البسيط هو الذي يعرف صاحبه أنه جاهل؛ فيطلب العلم، ويقبل التوجيه الصحيح. والجهل المركَّب هو الذي لا يعرف صاحبه أنه جاهل بل يظن أنه عالم؛ فلا يقبل التوجيه الصحيح، وهذا أشد أنواع الجهل. والجهل الذي يُعذر به صاحبه هو الجهل الذي لا يمكن زواله؛ لكون صاحبه يعيش منقطعاً عن العالم، لا يسمع شيئاً من العلم، وليس عنده مَنْ يُعلِّمه؛ فهذا إذا مات على حاله فإنه يُعتبر من أصحاب الفترة، قال تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء. والجهل الذي لا يعذر به صاحبه هو الجهل الذي يمكن زواله لو سعى صاحبه في إزالته مثل الذي يسمع ويقرأ القرآن، وهو عربي يعرف لغة القرآن؛ فهذا لا يُعذر في بقائه على جهله؛ لأنه بَلَغَه القرآنُ بلُغَتِه ، والله تعالى يقول: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (19) سورة الأنعام، فالذي بلغه القرآن ووصلت إليه الدعوة والنهي عن الشرك والكبائر لا يُعذر إذا استمر على الشرك أو استمر على الزنا أو الربا أو نكاح المحارم أو أكل الميتة وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر أو أكل أموال الناس بالباطل أو ترك الصلاة أو منع الزكاة أو امتنع عن الحج وهو يستطيعه؛ لأن هذه أمور ظاهرة وتحريمها أو جوبها قاطعٌ، وإنما يُعذر بالجهل في الأمور الخفية حتى يُبيَّن له حكمها. فالعذر بالجهل فيه تفصيل: أولاً: يُعذر بالجهل من لم تبلغه الدعوة ولم يبلغه القرآن ويكون حكمه أنه من أصحاب الفترة. ثانياً: لا يعذر من بلغته الدعوة وبلغه القرآن في مخالفة الأمور الظاهرة كالشرك وفعل الكبائر؛ لأنه قامت عليه الحجة وبلغته الرسالة، وبإمكانه أن يتعلم ويسأل أهل العلم عما أُشكل عليه ويسمع القرآن والدروس والمحاضرات في وسائل الإعلام. ثالثاً: يعذر بالجهل في الأمور الخفية التي تحتاج إلى بيان حتى تُبيَّن له حكمها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه». فالحلال البيِّن يؤخذ والحرام البيِّن يُتجنَّب، والمختلَف فيه يُتوقَّف فيه حتى يتبين حكمه بالبحث وسؤال أهل العلم. فالجاهل يجب عليه أن يسأل أهل العلم؛ فلا يعذر ببقائه على جهله وعنده مَنْ يُعلِّمه، قال تعالى {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل؛ فيجب على الجاهل أن يسأل، ويجب على العالِم أن يُبيِّن ولا يكتم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(159) -(160) سورة البقرة. ولا يجوز للمتعالم - وهو الجاهل جهلاً مركباً - أن يتكلم في هذه الأمور بغير علم. وفَّق اللهُ الجميع للعلم النافع والعمل الصالح والإخلاص في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. -عضو هيئة كبار العلماء