الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه.. وبعد: فقد أصبحت المطالبة بالتغيير ظاهرة عامة تحيط بالمتابع للأحداث في كل وسيلة إعلامية، وصار التبشير بالتغيير القادم شعاراً يهتف به الفرقاء على اختلاف اتجاهاتهم. وذلك يستوجب تأصيلاً واضحاً للتغيير من الوجهة الشرعية وبيان ما جاءت به النصوص من معيار دقيق للتغيير.. ليبني المسلم موقفه من التغيير على أساس علمي سليم، لا على أساس عاطفي جامح يرفض التغيير من حيث المبدأ، أو يقبل التغيير، لمجرد الرغبة في تبدل الواقع الذي يعيشه وتجريب واقع سواه. وفي هذه الكلمات أتحدث عن التغيير -بعون الله- من خلال المحاور الثلاثة الآتية: المحور الأول: ما المقصود بالتغيير من الوجهة الشرعية؟ التغيير يعني: إنكار وضع مخالف للشرع، والسعي في تبديله، سواء أكان هذا الوضع متعلقاً بأمور الدين أو الدنيا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في (صحيح مسلم 78): (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)؛ فنص الحديث هنا على كلمة (التغيير) وأنها تكون في حال وجود أي منكر، ديني أو دنيوي، وذلك يعني: أن من أراد التغيير فإن عليه أن يسلك المسلك الذي رسمه الشرع في التعامل مع المنكر. ومن هنا وجب أن يُراعى في التغيير جميع ما يراعى في التعامل مع المنكر من الشروط، وأن يكون وفق الدرجات الثلاث المعروفة في علاج المنكر. المحور الثاني: الضوابط الشرعية للتغيير لا يخفى أن دعوات التغيير اليوم تهدف إلى إعادة النظر في أوضاع عديدة، وتشمل مجالات الحياة المختلفة، دون استثناء. وما دام التغيير بهذا القدر من الضخامة فلا شك أن الشرع العظيم لابد أن يجعل له -بل لما هو دونه في الضخامة- ضوابط دقيقة، وذلك ليكون التغيير إيجابياً بانياً لا سلبياً مدمراً، وهذه الضوابط على النحو الآتي: أولاً: هل الوسائل المستخدمة في التغيير سليمة أم لا؟. ثانياً: هل الراية المرفوعة لإيجاد التغيير راية شرعية أم لا؟ ثالثاً: هل عواقب التغيير مأمونة؟ لنتأمل هذه الضوابط مربوطة بالنصوص وسيرة السلف: فأول هذه الضوابط يتعلق بالوسائل المستخدمة في التغيير، فإنها لابد أن تكون وسائل شرعية، إذ الغاية السليمة للتغيير لا تبرر استخدام وسيلة ممنوعة شرعاً، فإن استخدمت وسائل باطلة للتغيير فهذا التغيير في نفسه منكر، وإن كان صاحبه يريد إزالة وضع خاطئ لا يُقرّه الله تعالى. ولهذا ذكر أهل العلم في شروط تغيير المنكر: أن ألا يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أشد منه. فإن أدى إلى منكر أشد فذلك ضرر محض لا يُقره الشرع، لأن المقصود بتغيير المنكر أن يزول أو يخفّ لا أن يزداد ويضطرم، ولهذا روى (الآجري: 48) أن الحسن البصري قيل له: (خرج خارجي بالخريبة) -وهي محلة في البصرة- فقال: (المسكين رأى منكراً فأنكره فوقع فيما هو أنكر منه)، فهذا الرجل رأى وضعاً خاطئاً فأراد تغييره، ولعل قصده كان طيباً، لكنه أغفل وسيلة التغيير الشرعية، فوصفه الحسن بالمسكين، تنبيهاً على سفاهة عقله. ثاني هذه الضوابط: راية التغيير التي تُرفع ما هي؟ هل هي على منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أم هي على خلاف ذلك؟.. لا ريب أن راية التغيير التي ترفع -وتلتف حولها الجماهير المطالبة بالتغيير- لابد أن تكون راية واضحة، هدفها إقامة دين الله، فإن كانت على خلاف ذلك فقد جاء الحديث الصحيح بالحكم الدقيق عليها، حيث روى (مسلم 1848) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل تحت راية عِمّية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي) وفي لفظ: (فقِتلةٌ جاهلية) وذلك يعني: أن من قُتل تحت هذه الراية فسعيه هدرٌ، وليس على طريق صحيح، ولذا عُدّ قتلُهُ تحت هذه الراية العمية قتلة جاهلية. والعمية -كما في (النهاية لابن الأثير 3-304)- من العماء وهي الضلالة، كالقتال في العصبية والأهواء. ولا يخفى أن كثيراً من الرايات المرفوعة للتغيير لا ذكر فيها للإسلام أصلاً، كما أن الأهداف المعلنة التي يصرح بها كثير ممن يريدون التغيير لا تتحدث عن إقامة دين الله، ولا عن إحقاق حق وفق شرع الله أو إبطال باطل أبطلته النصوص. وأنبه هنا إلى أني لا أعمم الكلام، ولذا فأنا ملازم لكلمة: (في كثير من الأحيان) وملازم لكلمة: (كثير من الناس) حتى لا أعمم، وعلى هذا فلابد من التدقيق في الراية المرفوعة للتغيير وتقويمها حسب ما يقتضيه الشرع، لإقرار الانضواء تحت هذه الراية أو إبطاله. وها هنا أمر مهم جداً في التغيير: وهو أن مطلب التغيير الذي تُرفع له الرايات يتركز في أحيان غير قليلة على المطالبة بأن يتولى زمام الأمور (فلان) وتُزهق في هذا السبيل أرواح كثيرة، وهذا ليس مقصداً مشروعاً أبداً، لأن الواجب أن يكون الهدف تحقيق أمر الله، لا أن يكون المُلك لفلان أو فلان، ولنتأمل جيداً هذا الحديث العظيم، الذي رواه النسائي رحمه الله تحت عنوان (تعظيم الدم) من كتاب (السنن 7-84)، وفيه عاقبة إزهاق الأنفس يوم القيامة لأجل هذه المقاصد الرديئة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: يا رب هذا قتلني. فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول الله عز وجل: فإنها لي، ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوؤ بإثمه)، وروى النسائي هذا الحديث عن جندب بلفظ: (قتلتُه على مُلك فلان) يعني: حتى يكون فلان هو الذي يتولى، قال جندب رضي الله عنه بعد أن روى الحديث: (فاتّقِها) يعني: اتقِ أن تزهق نفسك أو نفس غيرك، لمجرد أن يكون فلان هو الحاكم. وما ذاك إلا لأن الشرع قد عظم من شأن النفس، وأبى أن تُزهق في سُبل كهذه، وإنما يكون ذلك في سبيل واحد هو إعلاء كلمة الله. ثالث هذه الضوابط: إذا تأكد مريد التغيير من تحقق الضابطين السابقين: (الوسيلة السليمة، والراية الشرعية الواضحة) فلابد من مراعاة الضابط الثالث: هل عواقب التغيير مأمونة؟ فقد جاء الشرع العظيم بتبصير أهله بأهمية النظر في العواقب والمآلات التي يمكن أن تنتهي إليها الأمور، وذَمِّت النصوص العجلة والطيش، وحثت على الحكمة والتروي والتأني. ومن هنا حذرت النصوص كثيراً من أمر (الفتنة) ونهت عن الاشتراك فيها، والفتنة في كثير من الأحيان تكون في أمر مشتبه غير واضح، ومع ذلك يطير إلى الاشتراك فيها جموع كثيرة من الناس، دون تدبر للعواقب ولا نظر في المآلات التي يمكن أن توصلهم إليها، فلذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الفتنة كثيراً، فقال فيما رواه (مسلم 1844): (إن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه). وروى حذيفة رضي الله عنه في حديثه المشهور الذي أصله في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم -لما ذكر الفتن ومراحلها التي تمر بها- قال في آخره: (فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذلٍ خيرٌ لك من أن تتبع أحداً منهم) - رواه (أحمد 5-386 وأبو داوود 4246) والجذل هو أصل الشجرة - نقل صاحب عون المعبود في شرحه لأبي داود (11-317) أن المراد بكون الفتنة عمياء صماء أن تكون بحيث لا يرى منها مخرج ولا يوجد دونها مستغاث، أو أن يقع الناس فيها على غِرّة من غير بصيرة، فيعمون فيها ويُصمون عن تأمل الحق واستماع النصح). ومن هنا جاء الأمر بكف اللسان عند وجود الفتنة واشتباه الأمور كما روى ابن أبي شيبة (7-448) وأبو داود (4265) وابن ماجه (3967) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الفتنة: (اللسان فيها أشد من وقع السيف) وسبب الأمر بكف اللسان: أن اللسان في أحيان كثيرة يثير الناس ويهيجهم، فيندفع منهم الألوف لنصرة تلك الكلمات التي هزتهم، غير متفطنين لعواقب هذا الذي انساقوا إليه، فيحدثون بسبب تلك الكلمات مالا تحدثه السيوف. ولذا فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -كما في (المسند 1-77)- لما اعتزل القتال الذي وقع في وقته وجاءه ابنه يحرِّضه على الاشتراك رد عليه سعد بقوله: (أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأساً؟ لا والله حتى أُعطى سيفاً إذا ضربت به مؤمناً نبا عنه، وإن ضربت به كافراً قتله). ومراد سعد أنه يستحيل أن يدخل في هذا القتال، كما أنه يستحيل أن يوجد هذا السيف. ومما جاء عن السلف في الحث على التروي والنظر في العواقب وترك العجلة ما روى ابن أبي شيبة (7-456) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إنها ستكون هنّات وأمور مُشبّهات فعليك بالتؤدة، فتكون تابعاً في الخير خيراً من أن تكون رأساً في الشر). وروى البخاري رحمه الله في كتاب الفتن من صحيحه في: (باب الفتنة التي تموج كموج البحر) عن خلف بن حوشب رحمه الله: أنهم كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن: الحربُ أولُ ما تكونُ فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضرامها ولَّت عجوزاً غير ذات حليل شمطاء يُنكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل ومرادهم بالتمثيل بهذه الأبيات تذكر أن النفوس أول ما ترد الفتن تكون شغوفة مستعجلة إلى الدخول فيها -دون تدبر للعواقب- ولهذا يِخف كثير من الناس إلى الحرب، وعدم البحث عن علاج أخف، (حتى إذا اشتعلت وشبّ ضرامها) يعني: ورأى الناس آثارها وما خلّفت من قتل وتدمير وخوف تبينت حقيقة تلك الفتاة إذ (ولت عجوزا غير ذات حليل شمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل ومن نماذج تروي السلف وتؤدتهم ونظرهم الدقيق للعواقب ما رواه البخاري (3882) عن حبيب بن مسلمة عن ابن عمر قال: خطب معاوية رضي الله عنه فقال: (من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه) يقصد بهذا الأمر: أمر الخلافة. (قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال ابن عمر رضي الله عنهما: فحللتُ حبوتي وهممتُ أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام) ومراده أن: في الصحابة من هو أحق بالأمر منك، وهم الذين أسلموا قبلك، والدليل على إسلامهم قبلك أنهم اشتركوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قتال المشركين، واشتركت أنت وأبوك مع المشركين، قبل أن يهديكما الله عز وجل إلى الإسلام. يقول ابن عمر: (فخشيت أن أقول كلمة تُفرِّق بين الجمع، وتسفك الدم، ويُحمل عني غير ذلك). وهذا الموقف من معاوية رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون سبباً للقدح فيه، فإن الظاهر أنه كان في حال غضب -على غير عادته- فقال ما قال، فأراد ابن عمر رضي الله عنهما أن يرد عليه، لكن خشي من الأمور الثلاثة التي ذكر. فأولاً: خشي أن تكون هذه الكلمة سبباً في فرقة الجمع، واللسان في الفتن تقدم أنه أشد من وقع السيف. ثانياً: خشي من أمر آخر يعقب هذا، هو أن تسفك الدماء، بسبب هذه الكلمة، كما هو معتاد كثيراً عقب وقوع الفرقة. ثالثاًَ: خشي من أن يُحمل كلامه على غير ما أراد. فإنه لو ردَّ على معاوية رضي الله عنه بهذا لكان مراده محصوراً في تذكير معاوية بأن في الصحابة من هو أولى منه. ويقف الأمر عند هذا، لكنه خشي أن تُحمل المسألة على أوسع من ذلك، وتُحلَّل تحليلات أخرى لا يقصدها. ومن تروي السلف وتؤدتهم وعدم عجلتهم في الفتن: ما رواه ابن سعد (7-143) أن مطرِّف بن عبدالله رحمه الله أتاه الحرورية -وهم الخوارج- يدعونه إلى رأيهم. فقال -على سبيل التعليم والتنبيه لهم-: (يا هؤلاء إنه لو كانت لي نفسان تابعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها بالأخرى، وإن كانت ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكنها نفس واحدة، وأنا أكره أن أغرّر بها). ولا شك أن أمر الحرورية واضح جداً عند مطرف، لكنه أراد أن يبيّن لهم أن إزهاق الأرواح والدخول في أمور يكون من آثارها سفك الدماء لا ينبغي أن يكون في الأمور المشتبهة، وإنما يكون في الجهاد الواضح البيّن. ولهذا روى ابن سعد أيضاً في هذا الموضع، عن مطرّف أنه جاءه ناس يدعونه إلى قتال أظلم ولاة بني أمية، وهو الحجاج بن يوسف -سفّاك الدماء المعروف- فلما أكثروا على مطرف قال: (أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه هل يزيد على أن يكون جهاداً في سبيل الله؟) قالوا: لا.. قال: (فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه). أي أن أحسن الأحوال خروجي على الحجاج أن يكون جهاداً في سبيل الله، وأنا لا أخاطر بالدخول في هذا السبيل -لا خوفاً على نفسي- لكن لأن هذا السبيل سبيل هلكة في الدين، وأنتم تزعمون أنه جهاد، والجهاد له فضله العظيم، لكن لما تردد الأمر بين الجهاد وبين الهلكة في الدين فلن أغرر بنفسي في تحصيل فضل موهوم، غير واضح المعالم. ولهذا قال رحمه الله أيضاً: (لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إليّ من أن ألتمس، أو قال: أطلب فضل الجهاد بالتغرير). وقد روى ابن سعد (7-188): أن مسلم بن يسار رحمه الله -وهو من خيار السلف- أكرهه ابن الأشعث على أن يخرج معه للقتال، لكنه لما خرج معه لم يشترك في القتال بتاتاً، فقال لأبي قلابة -متحدثاً بما يرى أنه نعمة من عم الله عليه-: (أحمد إليك الله أني لم أطعن فيها برمح ولم أرم فيها بسهم ولم أضرب فيها بسيف). فقال له أبو قلابة: (يا أبا عبدالله فكيف بمن رآك واقفاً في الصف، فقال: هذا مسلم بن يسار، والله ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحق. فتقدم فقاتل حتى قُتل؟ فبكى وبكى حتى تمنيت أني لم أكن قلت شيئاً). ومراد أبي قلابة أنك وإن لم تدخل في القتال فإنك قد تكون سبباً في اشتراك غيرك، ممن يحسن بك الظن، فأقر مسلم رحمه الله بهذا الاحتمال ولم يجد جواباً إلا البكاء. المحور الثالث في هذا السؤال الكبير: أين نحن في واقعنا اليوم من هذا الهدي العظيم الذي تقدم في النصوص، وفي كلام السلف رضي الله عنهم؟.. سأجمل الكلام بحول الله في هذا المحور من خلال الآتي: أولاً: لا ريب أن كثيرين يبادرون إلى التغيير المندفع، تارة بالقول وتارة بالفعل، وقد مرّ الحديث الذي فيه أنّ وقع اللسان أشد من وقع السيف، وهذا قد تجلى اليوم في عدد من وسائل الإعلام التي أخذت على عاتقها إحداث تغيير، دون نظر في عواقب ذلك التغيير، ولذا صارت تحرص على نوع من التحليلات، مربوطة بنوعية معينة من الضيوف يهيجون الناس ويثيرون بعضهم على بعض، وكأن الهدف أن تُثار الفتنة وتشتعل بنارها البلدان باسم التغيير!. وتارة يكون الاشتراك في التغيير من خلال الفعل، وذلك بالسعي الحثيث في إيجاد وضع يصدق عليه - شرعاً- اسم (الفتنة). وأخطر ما في الموضوع على الإطلاق أن يشترك أحد من أهل العلم الشرعي في تهييج الناس وتحريضهم على سفك الدماء وعلى التدمير بدعوى التغيير، لأن الناس إذا رأوا هذا المقتدى به يفتيهم بذلك فإنهم يكون على حال من الاطمئنان الشديد بأن ما هم فيه ما هو إلا نوع من أنواع الجهاد، وقد قدمنا نماذج يسيرة من سعي علماء السلف إلى تسكين الفتن وإطفاء نارها قدر ما يستطيعون، وقد تحملوا رضي الله عنهم في سبيل ذلك نقداً لاذعاً من عدد من المندفعين، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجلين سألاه بنوع من العتب عن سبب امتناعه من الاشتراك في الفتنة، فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى فتنة ويكون الدين لغير الله (رواه البخاري 4513)، فهكذا ينبغي لأهل العلم أن يثبتوا ويكونوا صرحاء في هذه الأمور العظام، سعياً في إبراء الذمة وإطفاء الفتنة، وإن عتب عليهم العاتبون ولامهم اللائمون. ثانياً: أن كثيرين ممن يطالبون بالتغيير إنما يطالبون به من باب ردة الفعل لإزالة الظلم فيتبنون مفاهيم متحررة لإسقاط هذا الظلم، وكأن الشرع لا وسط فيه، فبعد أن تنهال عليهم المظالم ينتقلون إلى طرف مقابل فيطالبون بحرية مطلقة، لماذا؟ ليزول الظلم، ويالله، ما أعجب هذه المطالبة! كأن الشرع لا وسط فيه: إما الظلم المحض أو الحرية الفوضوية. لا ريب أن الشرع الكريم ينبذ هذين المسلكين المتعجرفين، وينأى بأهله عنهما معاً. وردة الفعل المتطرفة لا يمكن أن تكون هي الطريق الصحيح لإزالة الظلم، لأن الباطل لا يزال بباطل مثله، وكم عانى الناس الأمرّين من الحرية الفوضوية، كما عانوا من الظلم والتسلط. ثالثاً: أن كثيراً من المطالبين بالتغيير لا يتفطنون للعواقب التي يمكن أن تنشأ لو انفلت الأمن، فإن المجتمعات عموماً لا تخلو من مجموعات مخربة لا يردعها خوف الله تعالى، ولا مروءة أهل الفضل، وهي بالتأكيد مجموعات في غاية التربص والانتظار لأي انفلات أو فوضى، لتهجم كالسباع الضارية على غيرها: سرقة وسفكاً للدماء، وهتكاً للأعراض المحرمة وانتقاماً لثارات قديمة، فإذا انفلت الأمن انفتحت الأبواب الواسعة لهؤلاء المفسدين في الأرض لتحقيق مآربهم الإجرامية، وكثير ممن يطلب التغيير لا يريد هذا قطعاً، لكنه لا يتفطن إلى أن التغيير المتعجرف البعيد عن منهج الشرع يمكن أن يفتح لهؤلاء المفسدين الباب، وأخطر ما في انفلات الأمن أن باب الفوضى إذا فتح قد لا يُغلق ويعجز العقلاء لاحقاً عن تلافي آثار ذلك الانفلات، وثمة بلدان انفلت فيها الأمن منذ سنين عديدة وظلت الفوضى هي السائدة فيها إلى اليوم؛ وذلك بسبب تغيير متسرع أدى إلى انفلات الأمور، ومن هنا كثر -بكل أسف- المشردون من بلدانهم، بعد أن كانوا في بلدانهم آمنين مطمئنين، وظل كثير منهم يتذكرون ما كانوا عليه قبل أن تدب فيهم الفوضى، قائلين: ألا ما أحلى الحال السابق الذي كنا فيه! على حد قول القائل: كم زمان بكيت منه، ثم بكيت عليه. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه كما روى الآجري (17): (ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفُرقة). رابعاً: أنّ كثيرين لا ينتبهون إلى استغلال الجهات الأجنبية للموجة المطالبة للتغيير، فلطالما ركبوا هذه الموجة وحرصوا على تصعيدها بأسلوبهم الخاص، تارة لإضعاف الأمة ونشر الفوضى والرعب فيها، وتارة لتتقدم هذه الجهات عارضة مبدأها ومُسوّقة له، وكأنها في مقام الشهم الكريم الذي ينتشل المستضعف ويحل مشاكله، مع أن هذه الجهات في أحيان كثيرة تمارس سياسة منحازة ضد قضايا الأمة بما لا يشك معه عاقل أنها لا يمكن أن تُسوّق لمبدأ كريم بيننا، غير أن الناس من شدة سعيهم إلى التخلص من الفوضى يفتحون قلوبهم لمثل هذه الدعوات، فتُفرض حلول، ويُسوّق لمبادئ ما كان لها أن توجد لولا غفلة المطالبين بالتغيير عن هذه المعضلة. خامساً: أنّ أكثر الناس لا يَردُّون الأمور إلى من أمر الله أن تُردّ إليهم في محكم القرآن، وهم أهل العلم. قال الله عز وجل: ?وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ? فأمر الله برد الأمر إلى أهل البصيرة والعلم الذين ينظرون النظرة الشرعية لا النظرة العاطفية ولا النظرة الحاقدة المتربصة؛ ينظرون نظر المشفق الراحم لإخوانه، وكأنه في وسطهم، وإن كان بينه ويبنهم آلاف الأميال، لكن كثيرين لا يردون الأمور إلى أهل العلم، بل يردونها كما قلت إلى وسائل الإعلام، فيتبنون ما تبثه من رأي مُوجَّه يتبناه القائمون عليها، فإن تبنت التحريض تبناه كثيرون، وإن شجعت جهة ما شجعها كثيرون، وهكذا، ولهذا فإن وعي المتابع لوسائل الإعلام على جانب كبير من الأهمية، وهو أمر غائب عن عدد من المتابعين للإعلام الموجّه بكل أسف. وفي نهاية هذه الكلمات أؤكد على أهمية التروي في أمر (التغيير) وعدم المبادرة إلى اتخاذ موقف عاطفي غير علمي منه، لأن العاقل لا يمكن أن يتبنى كل تغيير، فإن من التغيير ما يعد حرباً على الشرع وقلباً لموازينه، على طريقة من (يأمرورن بالمنكر وينهون عن المعروف)، فهذا التغيير مرفوض رفضاً تاماً، والفضيلة في الوقوف في وجهه والثبات على المبدأ الذي سعى دعاة التغيير إلى زعزعته، وقد مدح الله في كتابه من لم يبدّل ولم يغيّر، وذلك في قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}. وفي المقابل فإن من التغيير ما يُعد تصحيحاً لأغلاط متراكمة وأوضاع مزرية، مضت على الصمت عليها سنين عديدة وأجيال متعاقبة، فهذا التغيير ما هو إلا تجديد لحق قد اندرس وإزاحة لباطل جثم على الصدور، فحيّهلا بهذا التغيير، وقوّى الله دعاته وسددهم وأعانهم. ولهذا قلت ويقول كل ذي علم وإنصاف: إن التغيير في ذاته لا يُذمّ ولا يمدح -شرعاً- إلا إذا اتضحت معالمه وتجلت رايته وتبينت غايته، أما أن نلتزم موقفاً محدداً من كل تغيير بقطع النظر عما ذّكِر فليس هذا بالموقف السليم، بل هو موقف العاطفة الجامحة التي لم يَزُمَّها العلم ولم تهدها البصيرة. جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وهدانا إلى الحق والثبات عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. (*) أستاذ العقيدة المساعد بجامعة الملك سعود بالرياض